بعد عامٍ على باغوز، لم يُهزم تنظيم «الدولة الإسلامية» ولم يعاود الظهور (بعد)

بعد عامٍ على باغوز، لم يُهزم تنظيم «الدولة الإسلامية» ولم يعاود الظهور (بعد)

حدثت أمورٌ كثيرة منذ أن خسر تنظيم «الدولة الإسلامية» (»داعش«) آخر قطعة من معاقله في بلدة باغوز السورية، هذا الأسبوع قبل عام. وكان أبرزها القضاء على أبو بكر البغدادي، أول خليفة للتنظيم الذي قُتل في غارة [جوية] شنتها القوات الخاصة الأمريكية في باريشا، سوريا، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وبعد ذلك الإعلان عن خليفته، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي من قبل تنظيم «داعش»؛ ولم تكن هناك حتى الآن أي علامات على حدوث أي انقطاع في عمليات التنظيم نتيجة هذا الانتقال في السلطة. وبالفعل، على الرغم من التصريحات الصاخبة للحكومة الأمريكية حول هزيمة تنظيم »داعش« في أعقاب سقوط الباغوز، إلّا أن التنظيم لا يزال نشطاً.

ومع ذلك، فمن السابق لأوانه أيضاً الجزم بأن نشاط تنظيم «الدولة الإسلامية» قد تجدد. والأصح القول إنّ التنظيم صامدٌ وينتظر اللحظات المناسبة لاستغلال الأوضاع – وليس بالضرورة بنفس الطريقة التي اتبعها في الفترة 2004-2006 (عندما اكتسب أهمية للمرة الأولى) أو في الفترة 2012-2014 (عندما عاد إلى الظهور بعد تكبده هزائم كبيرة في العراق). ومع ذلك، فما زالت العديد من الديناميات الكامنة، الطائفية منها وتلك المتعلقة بالحكم، التي أدّت إلى معاودة ظهوره قبل ثماني سنوات، قائمة في العراق وسوريا على حدٍّ سواء.

استمرار الولاء

في أعقاب خسائر الأراضي التي لحقت بتنظيم »داعش« في العام الماضي، أطلقت الجماعة حملة فيديو بعنوان “والنتيجة الأفضل يحققها الصالحون” بهدف إعادة تأكيد الولاء للبغدادي من قبل مختلف الجماعات التي تدور في فلك تنظيم »الدولة الإسلامية« داخل شبكته العالمية. وحصلت الحملة على دعم من الفروع الأساسية في العراق وسوريا وكذلك من “المحافظات” النائية والداعمين في أفغانستان وأذربيجان وبنغلاديش والشيشان وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر وليبيا وموزمبيق ونيجيريا والفلبين والصومال. تونس وتركيا واليمن.

وبعد وفاة البغدادي، أطلق تنظيم »داعش« حملةً مشابهة من المقالات التصويرية التي أظهرت مناصري الجماعة في مختلف البلدان يبايعون القائد الجديد. وشملت الحملة هذه المرة فروعاً في أفغانستان وأذربيجان وبنغلاديش وبوركينا فاسو والكونغو ومصر وإندونيسيا والعراق وليبيا ومالي وموزمبيق ونيجيريا وباكستان والفلبين والصومال وسوريا وتونس واليمن.

العمليات منذ الباغوز

منذ سقوط الباغوز حتى 19 آذار/مارس 2020، أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليته عن أكثر من 2000 هجوم في العراق وسوريا مجتمعة. وفي سوريا ادّعى قيامه بـ 973 هجوماً في المحافظات التالية:

• 580 بدير الزور

• 150 في الرقة

• 141 في الحسكة

• 48 في حمص

• 33 في درعا

• 16 مدينة حلب

• 4 في دمشق

• 1 في القنيطرة

وفي العراق، ادعى التنظيم شنه 1,143 هجوماً في المحافظات التالية:

• 452 في ديالى

• 171 في كركوك

• 146 في بغداد

• 138 في نينوى

• 133 في الانبار

• 71 في صلاح الدين

• 32 في بابل

ويمكن للمرء أن يستنتج من هذه البيانات، أن لتنظيم «الدولة الإسلامية» قاعدة أقوى بكثير في منطقة دير الزور في سوريا ومنطقة ديالى في العراق من أي مكان آخر. ويشير التقرير أيضاً إلى أن الخلايا الأصغر حجماً لا تزال نشطة نسبياً في مناطق كركوك والرقة وبغداد والحسكة ونينوى والأنبار، حيث تشن حوالي 11-15 هجوماً شهرياً. وبالتالي، فإن البنية التحتية للقيادة والتحكم التابعة لتنظيم «داعش» تبدو سليمة.

على الرغم من أن عدد الهجمات يبدو مثيراً للوهلة الأولى، إلا أنه منخفض بالفعل من منظور مقارن (وإن كانت هذه الهجمات قد انتشرت بشكل مثير للقلق). ففي العراق، على سبيل المثال، شهد عام 2019 أدنى مستوى لعدد القتلى في صفوف المدنيين منذ حرب عام 2003، ويبدو أن هذا الاتجاه الانخفاضي قد استمر هذا العام. ووفقاً لمنظمة “إحصاء الجثث في العراق” (Iraqi Body Count) ، فقد قُتل 261 مدنياً هناك حتى شهر شباط/فبراير، وهو ما يصل إلى ما مجموعه 1،566 شخص إذا تم تقدير الأرقام استقرائياً لبقية العام. وهذا العدد أقل بكثير مما كان عليه في السنوات الماضية: على سبيل المثال، عانى العراق من:

• 2,392 قتلى في عام 2019

• 3،319 عام 2018

• 13،183 عام 2017

• 20،218 في عام 2014

• 29،526 في ذروة عام 2006

وبالطبع، إن تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس مسؤولاً عن جميع هؤلاء القتلى، لكنه كان الفصيل المتمرد المهيمن الذي يعمل في العراق على الأقل منذ عام 2009.

وقد تشير هذه البيانات أيضاً حول هجمات تنظيم »داعش« أن العدد الفعلي لمقاتلي التنظيم المتبقين في العراق هو أقل بكثير من العدد المقدَّر عموماً، بما أن مستوى العنف في البلاد أقل بكثير من أدنى مستويات النشاط التي سجلها التنظيم: وتحديداً بين عامَي 2009 و2011، بعد “صحوة” العشائر وزيادة عدد القوات الأمريكية، عندما كان عدد القتلى السنوي يحوم حول 4,000-5,000. وخلال العام الماضي، أكدت الحكومة الأمريكية والأمم المتحدة وأطراف أخرى أنه يوجد ما يصل إلى 25,000 مقاتل في العراق وسوريا مجتمعين: حوالي 11,000 في العراق و 14,000 في سوريا. وإذا كانت هذه الأرقام دقيقة، لكان من المرجح أن يكون العنف أسوأ بكثير خلال العام الماضي مما تشير إليه إحصائيات عدد القتلى. (ومع ذلك، إذا كانت تقديرات الولايات المتحدة/الأمم المتحدة تشمل أعضاء تنظيم «الدولة الإسلامية» المنخرطين في أنشطة غير عسكرية، فلا يمكن إجراء مقارنات مع الفترات السابقة التي برز فيها التنظيم من جديد باستخدام هذه المقاييس، لأن تنظيم »داعش« لم يكن لديه مثل هذا الجهاز البيروقراطي الواسع حتى عام 2013.)

التطلع إلىى المرحلة القادمة

ليس من المستغرب أن محافظة ديالى ما زالت تعتبر مركزاً لهجمات تنظيم »داعش« في العراق، نظراً لدورها منذ مدة طويلة كمنطقة رئيسية للجماعة، سواء كانت مسرحاً أثناء التمرد الناشئ في 2003-2004 أو كنقطة تراجع بعد هزائمها في الفترة 2007-2009. ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى طبيعة الأرض الجغرافية، فتلك المنطقة غنية بالجبال والقنوات والبساتين وغيرها من التضاريس التي تجعل الاختباء ونصب الكمائن أكثر سهولة، والقيام بالعمليات المضادة الفعالة أكثر صعوبة. وبالإضافة إلى عمليات القتل المستمرة، شهدت ديالى أيضاً عدداً من عمليات الخطف في عام 2020 – وعلى الأرجح يتبع التنظيم هذه الطريقة للحصول على الفدية، كما فعل في الموصل بين عامي 2009 و 2014 عندما كان يحاول تحقيق الاستقرار ومعاودة الظهور.

وتقع ديالى أيضاً في تقاطع خطوط عرقية ودينية مختلفة بين العرب السنة، والعرب الشيعة، والأكراد، والتركمان. ويمكن لتنظيم «الدولة الإسلامية» الاستفادة من هذه الانقسامات لإيجاد فرص استهداف غنية، خاصة وأن «منظمة بدر» – وهي جماعة شيعية مدعومة من إيران وتشكل جزء من شبكة ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقية – تسيطر حالياً على المنطقة. وهذه الديناميات نفسها تجعل من الصعب على القوات الخاصة الأمريكية القيام بعمليات في ديالى. وفي الوقت نفسه، حدّ التكوين المختلط للمنطقة من قدرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على السيطرة الكاملة بنفسه هناك، بما في ذلك في أحدث تكراراته.

ومن أجل قمع أنشطة تنظيم »الدولة الإسلامية« فعلياً في هذه البقعة الساخنة، يجب على واشنطن أن تذكّر بغداد باستمرار بأن مسارها الحالي – تمكين الوكلاء الإيرانيين من فرض سيطرتهم المحلية – سيؤدي إلى إشعال التمرد المقبل لتنظيم »داعش«. فقد أثبت تاريخ العراق في الفترة الأخيرة أن ترك الساحة للقوى الطائفية يُديم دورةً لا تنتهي من الانتعاش والانكماش المتكررين في الحركة الجهادية.

وعلى الرغم من أن انتشار العنف على مساحة أوسع من الأراضي العراقية أمر مثير للقلق، فمن المرجح أن تُركّز الشرارة المقبلة لتنظيم »داعش« في سوريا، حول البلدات على الجانب الشرقي من نهر الفرات. فالاستياء الذي يغلي تحت السطح في منطقة دير الزور يمنح التنظيم أكبر منصة للاستيلاء مجدداً على الأراضي. ومن بين جميع المناطق الواقعة ضمن نطاق “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، فإن دير الزور هي أقل منطقة تخضع للسيطرة المباشرة من قبل الجناح العسكري لـ “الإدارة”، أي «قوات سوريا الديمقراطية» – خاصة منذ الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة والغزو التركي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ونتيجة لذلك، ووفقاً لـ “مركز معلومات روجافا”، انخفضت غارات «قوات سوريا الديمقراطية» وقوات التحالف ضد أهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» في المنطقة من 32 في أوائل 2019 إلى 16 في أوائل 2020. بالإضافة إلى ذلك، كانت الظروف السائدة محدودة بالمساعدات الإنسانية وحالت دون أي محاولة لبدء جهود إعادة التأهيل والإعمار المحلية. وفي غضون ذلك، أفادت المحطة الإخبارية “دير الزور 24” أن تنظيم «الدولة الإسلامية» حاول إعادة فرض الضرائب على السكان المحليين في شباط/فبراير، مع حالات ملحوظة في بلدتي الحوايج والرغيب.

ويعود المستوى المرتفع لعمليات الجماعة في دير الزور أيضاً إلى واقع كَوْن السكان في الشرق من العرب بشكل رئيسي، كما أن أماكن سكنهم بعيدة عن السلطات المركزية لـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” التي يتزعمها الأكراد في أقصى الشمال. ومن هذا المنطلق، أضاع التحالف فرصته لتأسيس هيكل حكم مستدام في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تتواجد القبائل المحلية على امتداد جانبي نهر الفرات، مما يمنح القوات القريبة التابعة لنظام الأسد وإيران والميليشيات الشيعية الوكيلة مجالاً واسعاً لإذكاء التوترات والانقسامات بين الأغلبية العربية السنية.

وفي ضوء هذه الظروف، يجب على التحالف التواصل مع المجالس المحلية في منطقة دير الزور التابعة لـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، بهدف تعزيز العلاقات وتقييد حرية حركة تنظيم «الدولة الإسلامية» وقدرته على البقاء نشطاً في المنطقة. وقد يعيق ذلك أيضاً من محاولة الجماعة القيام بحملة أخرى “لكسر الجدران”. وفي هذا السيناريو، يمكن لـ تنظيم »داعش« إطلاق سراح الآلاف من مقاتليه في السجون المحلية وعشرات الآلاف من مؤيديه في مخيمات اللاجئين المنتشرة في الشمال الشرقي، وبالتالي تجديد صفوفه العسكرية ومشروعه لبناء الدولة على حد سواء. وحدثت مثل هذه المحاولات من داخل سجون ومخيمات مختلفة في أعقاب الغزو التركي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ومؤخراً في منتصف آذار/مارس، عندما حاول سجناء تنظيم «الدولة الإسلامية» الهروب في حي غويران بالحسكة. ومن شأن الحفاظ على الاستقرار المحلي أيضاً أن يخلق جدار حماية ضد نظام الأسد وحلفائه الذين يحاولون استعادة هذه المنطقة، الأمر الذي لن يؤدي سوى إلى قيام المزيد من المعاناة للسكان وإثارة المزيد من عمليات التجنيد من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية».

أما بالنسبة لتفشي وباء الكورونا في الشرق الأوسط، فمن السابق لأوانه التنبؤ بكيفية (ومدى) تأثيره على الديناميات المحلية وعلى تنظيم «الدولة الإسلامية» على وجه الخصوص. وعلى أقل تقدير، من المحتمل أن يؤدي إلى إعاقة العمل الدولي والمحلي ضد الجماعة بسبب تغيّر الأولويات. وقد أشار تنظيم »داعش« إلى هذا الاحتمال في نشرته الإخبارية “النبأ” قبل أسبوع، بقوله أن مؤيديه يجب ألا يظهروا أي شفقة ضد أعدائهم، بل في الواقع الضغط عليهم بأي شكل ممكن داخل البلدان [المختلفة] وخارجها.

وبالتالي، في حين أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لم “يَعُد” بعد، ، أو حتى ليس بنفس القوة التي كان عليها في الفترة 2014-2016، فإن الذكرى السنوية لهزيمته وخسارته للأراضي عام 2019 لا تزال قاتمة. وحتى الآن، لم يتم الاتّعاظ من الدروس المستخلصة من هزائم التحالف بعد حملات الصحوة وزيادة عدد القوات الأمريكية في العراق، مع احتمال أن تكون نافذة الفرصة لمعالجة الجذور السياسية لتجدد تمرد تنظيم »داعش« في المستقبل قد أُغلقت بالفعل مرة أخرى.

هارون زيلين

معهد واشنطن