تحوّل فايروس كورونا إلى وباء داخل إيران، ولم يستثن أحدا من الفقراء والعامة وصولا إلى النخب السياسية والإعلامية والرياضية ورجال الدين والأطباء. وانتشر في مختلف المناطق، وأصبح يهدد المجتمع ككل، في الوقت الذي تبدو فيه السلطات الرسمية عاجزة عن مواجهته، لكنها تصر على سياسة الهروب إلى الإمام واللجوء إلى استحضار خطاب المؤامرات وطمس الحقيقة.
بينما يخوض الإيرانيون حربا ضد وباء كورونا الذي أودى بحياة أكثر من ألفي شخص، وتجاوز عدد المصابين به الألفي شخص، ظهر وزير الدفاع الإيراني العميد أمير حاتمي، قائلا “سنزيد القدرة التدميرية للرؤوس الحربية لصواريخنا”، في رسالة، تبدو خارجة عن السياق الزمني، ولم يفهم لمن بالضبط، هل هي للداخل المهموم بمجابهة والوباء أم للخارج الذي يخوض ذات الحرب.
ولئن دلت تصريحات حاتمي على شيء، فإنها تؤكد على أن النظام الإيراني ما زال يرتكب ذات الأخطاء من حيث سياسة الهروب إلى الأمام، وتخدير الشعب بشعارات لا تعكس سوى قوة من ورق، ولا صدى لها اليوم فيما الإيرانيون يدفعون ثمن السياسات الداخلية والخارجية لنظامهم.
ويصرّ النظام في طهران على مواصلة ارتكاب الأخطاء التي أوصلت البلاد إلى هذه المرحلة من الخطر، حتى أنه حوّل جائحة كورونا إلى صراع عقائدي وسياسي، يتخذ فيه جانب الضحية عندما يصفها بالمؤامرة التي تستهدفه. وحاول الاستظهار بقدرته على الصمود في الحرب الوهمية بالتقليل من أعداد الضحايا، رغم أن الأزمة عالمية.
وبينما استعرض وزير الدفاع “القوة التدميرية” للصواريخ الإيرانية، ردّ عليه إيرانيون على مواقع التواصل الاجتماعي مطالبين إياه، وكل مؤسسات الدولة، باستعراض القوة في مجابهة الوباء الذي كان انتشاره القطرة التي أفاضت كأس صبر الإيرانيين على النظام.
وشكّك الإيرانيون في الأرقام التي أعلن عنها المتحدث باسم وزارة الصحة والعلاج والتعليم الطبي الإيراني كيانوش جهانبور، وجاء فيها أن عدد الإصابات بفايروس كورونا في البلاد، بلغ لغاية ظهر الجمعة 32 ألفا و332 شخصا، فيما توفّي 144 آخرون ليرتفع عدد المتوفين إلى 2378 وتعافي 11 ألفا و133 شخصا.
وقالت صحيفة دي التلغراف الهولندية في مقال بعنوان “إيران جبل جليدي لكورونا في الشرق الأوسط”، أن منظمة الصحة العالمية بينت أن الأرقام الحقيقية لضحايا كورونا في إيران لا تقل عن 5 أضعاف الأرقام الرسمية.
وتابعت الصحيفة “في أسوأ الظروف، يموت ما يصل إلى 3.5 مليون شخص في إيران بحلول شهر مايو، وقد فشل المسؤولون الحكوميون في جميع المجالات. ولا يمكنهم مواجهة مثل هذه الأزمات”. وتعد الأعداد المسجلة في إيران الأعلى في الشرق الأوسط. مع ذلك، يخشى الخبراء الدوليون من أن إيران لا تقدم تقارير صحيحة عن حالاتها. ويقول معارضون إيرانيون إن الرقم قد يكون أكبر، من حيث عدد الإصابات وعدد الوفيات، خاصة وأن السلطات كانت قد نفت في البداية وجود إصابات، واعتبرت التقارير الدولية التي تتحدث عن وصول الفايروس إلى إيران “مؤامرة”.
لكن، لم يكن ممكنا الاستمرار في التكتم عن الأمر مع تصاعد عدد الوفيات والإصابات، وظهور تقارير تؤكد أن هناك إصابات في دول مثل العراق ولبنان كان مصدرها عدوى من أشخاص قدموا من إيران. وتأتي تسعة من أصل 10 حالات من أكثر من 18 ألف حالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط من إيران.
وكان النائب الإيراني غلام علي جعفر زاده، انتقد تكتم السلطات الإيرانية بشأن العدد الحقيقي لضحايا كورونا. وقال إن إحصائيات وفيات الوباء الرسمية “مجرد مزحة”، مضيفا أنه و”بناء على الأدلة والمعلومات التي تلقيناها، فإن عدد الأشخاص المصابين والمتوفين بكورونا أعلى بكثير من الأرقام المعلنة”. ولم يزد ارتفاع أعداد الضحايا النظام الإيراني إلا تعنتا، فإلى جانب استعراض القوة العسكرية، على غرار تصريحات وزير الدفاع أو التقارير التي تتحدث عن تنفيذ الحرس الثوري لتمرين دفاع بيولوجي لمكافحة فايروس كورونا، زادت هستيريا الاعتقالات لديه. وشهدت مختلف المدن حملات اعتقال بتهمة بث الإشاعات ونقل الأخبار عن ضحايا كورونا.
وقد أعلن النظام أنه تم اعتقال العشرات من الأشخاص لتقديمهم معلومات على وسائل التواصل الاجتماعي حول النطاق الحقيقي للضحايا. وكان المدّعي العام للنظام محمد جعفر منتظري قد حذر في بيان من أيّ تعليق بشأن كورونا خارج القنوات المعتمدة، معتبرا أن ذلك يعد خرقا للأمن القومي ومصالح الأمة. وأضاف منتظري أن نشر الإحصاءات المتعلقة بفايروس كورونا هو “عمل إجرامي يعاقب عليه القانون” وله “عواقب وخيمة”.
وانتقد معارضون إيرانيون هذه الممارسات، معتبرين أن الأولى بالاعتقالات والقمع هو أولئك الذين يرفضون غلق المزارات في انتشار العدوى بشكل كبير، من خلال ممارساتهم، كتقبيل المراقد والإصرار على زيارتها. كما انتقد المعارضون سياسة الحكومة وقالوا إن النظام الصحي المتهالك أولى بالأموال المخصصة لتمويل الميليشيات ومشاريع الصواريخ التي لم تقتل إلا الإيرانيين.
من ووهان إلى قم
حوصلة لعدد الوفيات
في خطاب مكرّر، حاول النظام الإيراني تحويل أنظار مواطنيه عن الأسباب الحقيقة لاستفحال الفايروس بزعم أنه جزء من حرب بيولوجية ضد بلاده، حيث اتهم المرشد الأعلى علي خامنئي الولايات المتحدة بإنتاج فايروسات خاصة بالجينات الإيرانية، مؤكدا قدرة طهران على التصدي لأيّ أزمة بما في ذلك تفشي كورونا.
وأشار خامنئي إلى أن ما وصفه بـ”ادعاء أميركا تقديم المساعدة لإيران في مكافحة كورونا أمر عجيب في ظل النقص والمشاكل التي تعانيها أميركا في مواجهة الفايروس”. غير أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، رد على تصريحات خامنئي، بالقول إن طهران أبقت على 55 رحلة مفتوحة مع ووهان الصينية، مركز انطلاق الفايروس، ما ساهم في تفشي المرض على أراضيها.
وبشكل غير مباشر، كذّب نائب وزير الصحة الإيراني، علي رضا رئيسي، ما ورد على لسان خامنئي، حيث أعلن أن تفشي فايروس كورونا بمدينة قم مصدره طلاب وعمال صينيون، ونقلت عنه وكالة الطلبة قوله إن “وحدات علم الوباء الإيرانية بدأت تحقيقا بعد تسجيل أول إصابة بكورونا بمدينة قم في الـ19 من فبراير الماضي”، حيث “أظهرت نتائج التحقيق بوضوح وبشكل لا لبس فيه أن تفشي الفايروس له صلة بمواطنين صينيين”.
وتابع “في تلك الفترة، كان بعض العمال الصينيين ينتقلون بين بلادهم وإيران، وبنفس الطريقة، كانت مجموعة من الطلاب الصينيين تتواجد في قم”. وأوضح أن لدى سلطات بلاده معلومات غير مؤكدة بأن عددا من الطلاب عادوا من مدينة ووهان الصينية قبل فرض حجر صحي عليها إلى محافظة جيلان.
يجعل النظام الصحي الهش والمتهالك إيران، بؤرة ثانية للمرض بعد الصين، ومن المرجح أن يفتك بأكثر من مليوني إيراني. لكن، تأبى الحكومة الإيرانية الاعتراف بذلك، وتصر على سياسة ذر الرماد على العيون، حيث قال الرئيس حسن روحاني في اجتماع لمجلس الوزراء إنه “لحسن الحظ لم يكن لدينا نقص في الأسرّة والممرضين والممرضات والأطباء حتى اليوم”، مشيرا إلى أنه في “مدينة مشهد 60 في المئة من أسرّة المستشفيات و30 في المئة من وحدات العناية المركزة فارغة”.
لكن، رئيس مجلس مدينة مشهد محمد رضا حيدري قال في تغريدة موجهة لروحاني “السيد الرئيس عليك أن تبقى قلقا بشأن مدينة مشهد.. بدأت عملية إخلاء أسرّة المستشفيات لاستيعاب المرضى المصابين بأمراض خطيرة. تضاعفت الحاجة إلى معدات وحدة العناية المركزة والوفيات في حالة تزايد”.
وأضاف حيدري “على الأقل، عليك أن تأمر بإرسال معدات وحدة العناية المركزة إلى مشهد”، فيما بثت قناة “الأطباء الإيرانيون” مقطع فيديو من ثلاجة الموتى لمستشفى في مشهد يكشف أن العديد من الأشخاص الذين توفوا تركوا في الفناء بسبب امتلاء الثلاجة.
ويرجع مراقبون محاولة التكتم حول الأرقام الحقيقية لضحايا الوباء في إيران إلى خشية النظام من الغضب الشعبي الذي بدأ يتبلور نتيجة فشله في احتواء الأزمة وعجزه عن توفير مستلزمات الرعاية لشعبه ولو عبر اعتماد إجراءات احترازية تساهم في انحسار الفايروس.
العرب