مع تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وإيران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، تصاعدت التوترات بين القوات الأميركية في العراق والمليشيات أيضا. وتضطلع المليشيات الشيعية بدور جديد في العراق منذ اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني مطلع يناير/كانون الثاني الماضي. إذ تحاول أن تعيد رسم معالم دورها المستقبلي في العراق
الواقع الحالي يقول إن فصائل المليشيات الشيعية تشارك في أغلبها في العملية السياسية، وقياداتها نواب في مجلس النواب العرا كعصائب أهل الحق. تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أن المليشيات الشيعية، تخدم مصالح إيران أكثر مما تخدم مصالح العراق. وتتهم واشنطن بالتحديد كتائب حزب الله العراقي، إحدى تلك المليشيات، بالوقوف خلف الضربات العسكرية التكررة ضد المصالح الأمريكية في العراق.
أنّ الميليشيات المدعومة من إيران مثل «كتائب حزب الله» تسعى إلى الضغط لإخراج التحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة من العراق بأي وسيلة ضرورية، وبِصرف النظر عن مساهمة التحالف في النضال ضد تنظيم داعش الإرهابي. وقد سعت الميليشيات مثل «كتائب حزب الله» إلى التخلص من القوات الدولية قبل وقتٍ طويلٍ من قتلها أحد العناصر الأمريكية في 27 كانون الأول/ ديسمبر، قبل أن تتلقّى بنفسها ضربةً في 29 كانون الأول/ ديسمبر، وقبل قيام الولايات المتحدة بقتل اثنَين من أربابها، هما اللواء الإيراني قاسم سليماني وزعيم إحدى الميليشيات العراقية أبو مهدي المهندس، في 3 كانون الثاني/ يناير في غارة بطائرة بدون طيّار في بغداد.
أن تُضاعِف الميليشيات حاليا جهودها، التي تشمل إصدار تحذيرات للمسؤولين والجنود العراقيين لإبعاد أنفسهم عن التحالف (وهو ما لم يفعلوه). ففي الأشهر الأخيرة، هدّدت «كتائب حزب الله» نواب عراقيين بأن عليهم التصويت من أجل إخراج القوات الأمريكية (وقد قاوم عددٌ كافٍ منهم هذا النداء لمنع اكتمال النصاب القانوني أثناء عملية التصويت)، وهدّدت الرئيس العراقي برهم صالح إذا ما التقى بالرئيس دونالد ترامب في “المنتدى الاقتصادي العالمي” (لكنه التقى بترامب على أي حال).
وتُصدر «كتائب حزب الله» حالياً أيضاً تصريحات تعترض فيها على بعض المرشّحين لمنصب رئيس الوزراء الجديد الذي سيتم تعيينه قريباً في العراق، وتقترح هي نفسها المرشح الذي يجب اختياره (رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي)، وتُشير صراحةً إلى كيفية وجوب اتخاذ كبار القادة الدينيين في البلاد الحكم في الأمر. ويشكّل كل ذلك أرضيةً غير مسبوقة في العراق، لا سيّما الانفتاح الذي تتّسم به التهديدات، على غرار الانتخابات الأخيرة في إيران حيث منع النظام ترشيح أكثر من 7000 شخص للبرلمان وألغى صلاحية ثلث النواب السابقين في سعيهم لإعادة انتخابهم.
وفي دراسة أمريكية حديثة صدرت في آذار/مارس الماضي تناولت مستقبل المليشيات الشيعية توصلت في شقها السياسي إلى ثلاث نقاط أساسية: أوّلاً، يجب تجميد نموّ المليشيات الشيعية. وإذا لم يتمّ ذلك، فهناك خطر من إمكانية تطوّر جوانبها السلبية بسرعة كبيرة تتجاوز القدرة على صدّها من خلال عملية تدريجية لإصلاح قطاع الأمن. يجب عدم السماح للجهات الفاعلة السلبية داخل المليشيات بإنشاء وقائع جديدة على الأرض. وفي هذه المرحلة، يبقى كلٌّ من عمل المليشيات وميزانيته وبنيته التحتية المؤسسية محدوداً، وينبغي أن تكون الأولوية هي تجميده عند هذا المستوى من أجل الحفاظ على خيارات العراق طوال عملية إصلاح قطاع الأمن التي تمتد من خمس إلى عشر سنوات.
ثانياً، حالياً ليس الوقت المناسب – ليس لمصالح الولايات المتحدة أو التحالف ولا للمصالح العراقية – لمحاولة حل القضايا الكبرى المحيطة بالمليشيات الشيعية بشكلٍ كامل أو اتّخاذ قرارات رئيسية. فبسبب التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، وإسرائيل وإيران، وبسبب عدم الاستقرار العراقي المحلي، يحتاج الأمر إلى مرور المزيد من الوقت لكي تصبح القضايا أقلّ حساسيةً ولتشجيع النقاش المنطقي حول مستقبل المليشيات الشيعية. فالواقع هو أنه لا يوجد بديلٍ قابلٍ للتطبيق سياسيّاً لنهج يتّسم بالتطوّر والصبر بل الحازم. يجب أن تقوم السياسات الدولية بشأن العراق على الواقع.
ثالثاً، من المهم أن تتوصل غالبية الجهات الفاعلة العراقية والدولية إلى توافق في الآراء حول القضيتين الرئيسيتين اللتيْن تواجهان الحشد الشعبي. الأولى هي القضية الأطول مدى المتعلّقة بالكفاءات والوظائف الأساسية والأدوار والمهمّات، التي يمكن من خلالها تطبيع القوة وإضفاء الطابع المهني عليها وترشيدها. والقضية الثانية، بنفس القدر من الأهمّية، هي الإمساك بزمام الأمور التي لحقت بـالمليشيات الشيعية في الفترة 2014-2019، بقيادة أبو مهدي المهندس و«كتائب حزب الله» ومؤيديهم الإيرانيين. ووفَّر مقتل المهندس فرصةً. فبالإمكان التصدّي للمركزية المفرطة للسلطة تحت حُكم زمرة ضيّقة من قادة المليشيات .
أن الاحتجاجات المناهضة للحكومة وفرت فرصة للمليشيات الشيعية لاختبار نفوذها في البلاد، وكانت بعض المليشيات متورطة بشكل علني في قمع الاحتجاجات. ومن المحتمل أن تكون معارضتها للاحتجاجات نابعة من اعتقادها بأنها تمثل تهديدًا أساسيًا لنفوذها وسلطتها الجديدة. فنفوذها تنامى بعد الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، وكانت تأمل في ترسيخ نفسها في المجتمع العراقي بعد ذلك. لكن الاحتجاجات كانت تعكس تطلعات جيل الشباب الذي أراد تغييرًا شاملا في النظام.
مع تنامي شبح الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في العراق، لدى المليشيات الشيعية قرارات مهمة يجب اتخاذها فيما يتعلق بمستقبلها، إذ من المحتمل أن تختار الاستمرار في توجيه موجة الغضب الشعبي ضد الولايات المتحدة بشأن الدور الذي تضطلع به في العراق.
وترتبط المليشيات الشيعية بزعماء دينيين وسياسيين بارزين، وهي تلعب الآن دورًا رئيسيا في العديد من جوانب المجتمع المدني العراقي. كما أن الدور الذي لعبته بعض المليشيات في قمع الاحتجاجات، ومحاولتها إجبار القوات الأميركية على مغادرة البلاد، والتأثير على تعيين رئيس وزراء جديد، يكشف أنها أصبحت قوة مركزية في بنية العراق السياسية والأمنية.
وفي نهاية المطاف، يمكن للمليشيات توسيع نفوذها لتصبح قوة مماثلة للحرس الثوري في إيران. وبالتزامن مع ذلك، ينبغي عليها أن تقرر ما إذا كان ستتبع مسارًا أكثر استقلالية أم أنها ستستمر في تنفيذ السياسات التي تخدم مصالح إيران. ستكون هذه النقطة مفصلية، لأنه إذا ظلت المليشيات مرآة تعكس أجندة طهران الإقليمية، فإن هذا سيجعلها في مواجهة فئة كبيرة من الشعب العراقي، وربما يدفعها ذلك إلى الدخول في صراع مع الولايات المتحدة أو جماعات أخرى في العراق.
وحدة الدراسات العراقية