نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالا لستيفن كوك، الزميل في دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، قال فيه إن مجتمع السياسات الخارجية توصل على مدى السنوات القليلة الماضية إلى الاعتقاد بأن عهدا جديدا من السياسة الدولية بدأ بالظهور. وأهم معالم هذا النظام ما بعد الحرب الباردة هو السباق بين الدول العظمى وإعادة تنظيم العلاقات الأمريكية في أنحاء العالم. ويبدو هذا واضحا في الشرق الأوسط أكثر من أي مكان، حيث يقوم حلفاء أمريكا بتطوير علاقات دبلوماسية وتجارية وعسكرية مع القوى التي تتنافس معها –الصين وروسيا– وبالضبط في وقت يدعو فيه الكثير من الخبراء والمحللين والمسؤولين والسياسيين الأمريكيين وبقوة إلى فك العلاقة مع الشرق الأوسط.
وهو ما أدى إلى استنتاج عدد من الأشخاص أنفسهم أن النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط ستتم صياغته إما في بيجين أو موسكو.
ويعتقد الكاتب أن هناك العديد من الأسباب للشك في هذا الافتراض بعدما بات بعضها واضحا في الأسابيع الأخيرة. وأكثرها ظهورا هو حرب أسعار النفط المشتعلة بين موسكو والرياض، والتي تظهر أن روسيا بالغت في لعب أوراقها في المنطقة.
بعد 30 عام تقريبا على نهاية الحرب الباردة، أصبح الزعماء في أنحاء الشرق الأوسط أكثر ترحيبا بروسيا، خاصة أن الحمولة الأيديولوجية التي كانت مرتبطة بشيوعية الاتحاد السوفيتي قد ذهبت.
فبعد 30 عام تقريبا على نهاية الحرب الباردة، أصبح الزعماء في أنحاء الشرق الأوسط أكثر ترحيبا بروسيا، خاصة أن الحمولة الأيديولوجية التي كانت مرتبطة بشيوعية الاتحاد السوفيتي قد ذهبت. وفي وقت أثبتت فيه أمريكا بأنها أصبحت قوة مستهلكة وضعيفة وعاجزة، بدت موسكو بالنسبة للزعماء الإقليميين ليست بالضبط بديلا لواشنطن ولكن على الأقل لاعبا إقليميا فعالا.
فالتباين بين الطريقة التي شاهدوا فيها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وهو يتخلى بها عن الرئيس المصري السابق حسني مبارك وتدخل الرئيس فلاديمير بوتين في سوريا لإنقاذ بشار الأسد، ترك أثرا كبيرا عليهم. وبالإضافة للنظرة السلبية لأمريكا فإن الحقيقة هي أن الاقتصاد وأنظمة الحكم في الشرق الأوسط لديها قواسم مشتركة مع روسيا أكثر من أمريكا – من ناحية الاعتماد على مداخيل النفط ومن ناحية الاستبداد.
ويقول كوك إن واشنطن أسهمت في تنامي العلاقة بين دول الشرق الأوسط وروسيا، عبر اكتفائها الذاتي من النفط والغاز وثورة النفط الصخري. ووصلت لما سماه الرئيس دونالد ترامب “استقلال الطاقة” حيث قامت أمريكا بإغراق الأسواق بالنفط والغاز. وخلق ذلك ضغطا على أسعار الوقود، وهذا هو السبب الذي جعل أعضاء أوبك، خاصة السعودية وروسيا، الاتفاق على حد الإنتاج لترتفع أسعار النفط عام 2016.
وكانت الاتفاقية ناتجة عن حرب أسعار سابقة، رفضت السعودية خلالها تخفيض إنتاجها للنفط على أمل تخريب صناعة النفط الصخري، ولم تنجح، وساعدت على استقرار أسواق الطاقة.
وعاد سعر برميل النفط إلى مستوى ساعد السعودية وروسيا على القيام بأشياء كانت لديهما رغبة بالقيام بها، مثل شن حروب –في أوكرانيا وسوريا واليمن وليبيا– والاستثمار في إحداث تحول اجتماعي، فرؤية 2030 لولي العهد محمد بن سلمان مكلفة.
وكانت الاتفاقية تتعلق بإنتاج النفط مع أنها احتوت على إعادة ترتيب العلاقات في الخليج. وبالنسبة للسعودية، شكل الروس سياجا بديلا عن أمريكا التي لا يمكن التنبؤ بما تريد فعله، والتي رغم العطل السياسي والاستقطاب، يبدو أن هناك اتفاقا عريضا بين المسؤولين الأمريكيين على الحاجة لمغادرة الشرق الأوسط.
ومن هنا يقول الكاتب إن روسيا حصلت بدورها على دفعة لملفها ونفوذها الإقليمي بالعمل مع السعودية، وإن كان ذلك على حساب أمريكا.
وكان بوتين يريد أن يعلم الجميع أن بإمكانه لفت انتباه السعودية –كما فعل مع الأتراك والمصريين– بعيدا عن أمريكا. ولذلك وبعد أن امتنع ترامب عن الرد عسكريا على إيران بعد ضربها للمنشآت النفطية السعودية في أيلول/ سبتمبر 2019، قام بوتين بعرض ببيع منظومة S-400 للدفاع الجوي (نفس المنظومة التي اشترتها تركيا من موسكو مما وتر علاقة واشنطن بأنقرة).
ويفسر الكاتب أن العلاقة لم تكن قوية بينهما رغم التداخل الواضح بين المصالح السعودية والروسية، خاصة في مجال الطاقة، ولم يكن لهذا العصر السعودي- الروسي ليحدث. وما على روسيا إلا أن تلوم نفسها.
وحتى مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، تم تصوير محمد بن سلمان على أنه متهور ومستبد. وكونه كان قد أثبت ذلك في عدة مواقف سابقة، يجعل من السهل تصديق أن هذا التهور هو الذي أدى إلى انهيار أسعار النفط على مدى الشهر الماضي. وهذا ليس هو الموضوع. فعندما جاء السعوديون لاجتماع أوبك + (والذي يتضمن 10 أعضاء من غير أوبك ومنهم روسيا) في أوائل آذار/ مارس وقالوا التالي: هناك طلب أقل على النفط الآن بسبب فيروس كورونا، فدعونا نخفض مليون برميل من الإنتاج.
ومن منظور السعودية كان هذا اقتراحا معقولا جدا، ولكن الروس رفضوه قائلين بأنهم يريدون تقييم أثر وباء كورونا على الاقتصاد العالمي أولا قبل أن يقرروا تخفيض الإنتاج. ولم يكن هذا معقولا، فقد كان واضحا في ذلك الوقت ولمعظم الناس بأن فيروس كورونا يضطر البلدان أن تغلق اقتصادها واحدة بعد الأخرى مما قلل من الطلب على النفط والغاز.
وفي الغالب رفض الروس خفض الإنتاج لأنهم كانوا مهتمين بشكل أكبر بإيذاء منتجي النفط الصخري في أمريكا وسرقة نصيب السعوديين من السوق، وكان هذا الأخير هو الذي أغضب السعوديين جدا. فهم لا يريدون أن يتم التلاعب بهم كأغبياء. واقترح المسؤولون السعوديون بأن يقوموا هم والروس والأمريكيون وعدد من اللاعبين الآخرون بخفض الإنتاج نسبيا. وبحسب السعوديين فإن الروس أرادوا منهم أن يخفضوا أكثر من غيرهم نسبيا. وهذا الموقف الروسي يثير المخاوف في الرياض إلى أن أي اتفاقية يمكن للرياض التوصل إليها مع موسكو، فإنه لا يزال لدى روسيا الدوافع للاحتيال، وتقويض مداخيل السعودية وحصتها في السوق – وهو أسوأ الاحتمالات.
ونتيجة لذلك عادت السعودية من الاجتماع متعهدة بزيادة الإنتاج إلى 10 ملايين برميل في اليوم وبدأت بعرض نفطها بأسعار مخفضة بهدف تخويف روسيا واضطرارها للعودة إلى طاولة المفاوضات ولكن روسيا أعلنت بأنها تستطيع تحمل أسعار النفط المتدنية. وقال السعوديون إنهم يستطيعون فعل نفس الشيء، وانهارت أسعار النفط العالمية.
ويعلق كوك أن أمريكا على ما يبدو كانت ضحية هذه الحرب، وانزعج أعضاء الكونغرس ممثلو الولايات التي تعتمد على صناعة الوقود الأحفوري بشكل خاص. وقد يكون الصينيون هم المستفيدون الوحيدون بينما يحاولون زيادة إنتاجهم بعد انتهاء وباء فيروس كورونا بمساعدة النفط الرخيص.
ويرى الكاتب أن أي اتفاق بين السعودية وروسيا مهما حصل فأحد النتائج المتوقعة لهذا الفصل ستكون نهاية لفكرة أن موسكو ستلعب دورا مهما في إقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط.
وفي سياق آخر كتب المنظر السياسي الماركسي الإيطالي، أنطونيو غرامشي، عن “فترة خلو العرش” بعد وفاة نظام في وقت “لا يستطيع النظام الجديد أن يولد”، حيث أشار إلى أنه في هذه الفترة تبدأ “أعراض المرض بالظهور”.
يقول كوك: “نحن في تلك المرحلة الآن، وهو السبب الذي يجب أن يجعل من يبحثون عن النظام الجديد عدم إساءة فهم القوة الظاهرة للعلاقات السعودية – الروسية في السنوات القليلة الماضية على أنها عملية تحلل أكثر من كونها نظاما عالميا جديدا في مرحلة التكون”.
القدس العربي