ما بين التموضع العسكري الأمريكي وتموضع النظام في العراق

ما بين التموضع العسكري الأمريكي وتموضع النظام في العراق

لم تمض سوى أيام قليلة على تكليف عدنان الزرفي لتشكيل حكومة انتقالية، حتى أعلنت أحزاب الدين السياسي التابعة لإيران، اعتراضها لترشيحه واعتبار قبوله، تنفيذا للأجندة الأمريكية، والعودة إلى قبول رئيس جهاز المخابرات، مصطفى الكاظمي، الذي اتهمته هذه الأحزاب نفسها بمسؤوليته عن مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية على قتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ليجدوا أنفسهم في النهاية أمام اختيارين أحلاهما مرّ.
في الوقت الذي اعتبرت القوى الشيعية الأخرى، أن ترشيح شخصية مقبولة من المجتمع الدولي، ضرورة من ضرورات المرحلة، يمكنها إدارة معادلة التوازن المقبلة بين النفوذين الإيراني والأمريكي في العراق. وتأكيدها على أهمية التأقلم مع المشهد السياسي الجديد، نتيجة فشل التفاهمات التقليدية بين القوى الشيعية وعدم قدرة إيران على لملمة الأحزاب الموالية لها، بعد زيارة وريث قاسم سليماني إسماعيل قآني«إلى بغداد، وفشل لقائه بقيادات الفاعل السياسي الشيعي، ما قد يجعل من عملية الترشيح لمنصب رئاسة الوزراء، حجة لتصفية الحسابات وصراعا للنفوذ على مقدرات هذا البلد.
وعلى الرغم من الرغبة المعلنة لتفادي حالة انقسام القوى الموالية لإيران، بيد أن بعض الشخصيات المؤثرة لهذه الأحزاب، أبدت رغبتها في كسب المزيد من النفوذ واستمرارها في السلطة، تماشيا مع حالة التأقلم الجديد للمشهد العراقي، نتيجة لتصاعد الضغط السياسي والعسكري الأمريكي على حلفاء إيران، سعياً إلى ركوب الموجة، في حالة تغير بوصلة النظام العراقي لصالح واشنطن، للإفلات من العقاب، نتيجة لتورط الكثير من زعماء هذه الأحزاب بملفات وقضايا الفساد، وقتل المتظاهرين، التي تمتلكها الإدارة الأمريكية، ويحاسب عليها القانون الدولي. في الوقت الذي أثبتت الأحداث الأخيرة في إيران، عجز النظام الثيوقراطي، نتيجة لمشاكله الداخلية، عن مد يد العون لحلفائه في العملية السياسية، بعد إخفاق الأحزاب الحاكمة للخروج باتفاق على مرشح جديد لرئاسة الوزراء، فضلا عن تصاعد التوتر بين ميليشيات الأحزاب الموالية لطهران وواشنطن، ما ينذر بجر العراق إلى أتون حرب، قد تندلع بين الميليشيات والولايات المتحدة على أرض العراق، إذا أخذنا بعين الاعتبار، وضوح الموقفين الأمريكي والإيراني، في ما يتعلق بتجنب الوصول إلى صراع عسكري شامل لكلا الطرفين، وسعيهما إلى الحفاظ على بقائه داخل الأراضي العراقية، ومن ثم حصر نتائجه على مستقبل العملية السياسية في بغـداد، من خلال العمل على إعادة التموضع السياسي والعسكري للولايات المتحدة في بلاد الرافدين، والشروع بتنصيب نخبة سياسية عراقية حليفة للولايات المتحدة، عن طريق إعادة تموضع النظام السياسي في العراق، والشروع في إعادة تنظيم الولاءات الخارجية داخل العملية السياسية.

أسباب إعادة التموضع العسكري الأمريكي، هو الحفاظ على المصالح الأمريكية، واستمرار بقاء قواتها، وعدم انسحابها من العراق

من الجدير بالذكر، أن انسحاب القوات الأمريكية من «قاعدة القيارة» جنوب الموصل، بعد أيام من الانسحاب من «قاعدة القائم»، كان نتيجة لاستهداف السفارة الأمريكية في بغداد، وتصاعد وتيرة عمليات الاستهداف المتكررة للقواعد الأمريكية، ناهيك من مطالبة أحزاب إيران في البرلمان العراقي، بانسحاب القوات الأجنبية، وهذا ما يفسر الأسباب التي دفعت بإعادة التموضع العسكري الأمريكي، للحفاظ على المصالح الأمريكية، وبالتالي استمرار بقاء هذه القوات، وعدم انسحابها من العراق، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة جديدة تضمن استمرار التواجد الأمريكي في العراق.
من الواضح، أن من أهم أسباب التموضع العسكري الأمريكي، ضمان حرص واشنطن، على تأمين القوات العسكرية في قواعد محمية، إلا أن من المحتمل أيضاً تفسيره، باعتباره خطوه مكملة، تدخل ضمن عملية تموضع سياسي لدعم النظام العراقي المتهاوي، للوصول إلى حلول تكفل التصويت على قبول المرشح الذي تفرضه الولايات المتحدة والمتمثل في عدنان الزرفي أو مصطفى الكاظمي. بعد ان أضحت العملية السياسية التي تبنتها أمريكا وإيران، عاجزة عن الخروج من أزمة النظام السياسي العراقي، جراء الضغط الكبير من المليشيات المسلحة، رداً على عمليات التصفية التي تعرض لها أبرز قادتها في العراق وإيران، ومن ثم الشروع بدعم معادلة سياسية جديدة من خلال استخدام الولايات المتحدة الأمريكية سياسة الترغيب أو الترهيب. وبمعنى آخر، العودة إلى سياسة العصا والجزرة، لدفع الفاسدين من المتشبثين بكراسي الحكومة والبرلمان، لتغيير ولائهم مقابل القبول بالوجود الأمريكي واستمرارهم في السلطة، أو استخدام عصا العقوبات لدفع ثمن ما جنت أياديهم من جرائم القمع والقتل لشباب «انتفاضة تشرين» وسرقة المال العام، من دون تغيير شامل في النظام السياسي، الذي رسم خطوطه الحاكم الأمريكي بريمر، والذي كان له الدور الكبير في تشريع قوانين الطائفية، والسماح للميليشيات المسلحة بالدخول في العملية السياسية، عن طريق تزوير انتخابات البرلمان، ومن ثم العمل على دعم استمرار هذه المليشيات سياسيا وماديا، ورفض حلها خوفا من سقوطها، الذي سيدفع لا محالة لسقوط عروشهم، التي أجرمت بحق كل العراقيين، شيعة كانوا أم سنة.
وهنا لابد من التأكيد على أن مقترح الحوار الاستراتيجي الذي نقله السفير الأمريكي إلى ممثل حكومة تصريف الأعمال العراقية عادل عبد المهدي، يدخل ضمن سياسة العصا والجزرة، الذي يراه الأمريكيون، الحل المناسب لحوار استراتيجي من نوع جديد بين الولايات المتحدة والنظام العراقي، لبحث مستقبل العلاقات بين الطرفين، في حالة قبول حكومة عراقية تفرضها الإدارة الأمريكية، من خلال إعادة تموضع للمشهد السياسي العراقي، يضمن خروج إيران من العراق، مقابل إعادة تموضع عسكري أمريكي للانسحاب من بعض القواعد، يضمن للنظام العراقي وأحزاب برلمانه حفظ ماء الوجه، في ظل القرارات والمستجدات والتغيرات المقبلة في إيران والمنطقة. في المقابل، وعلى الرغم من كشف رئيس حكومة تصريف الأعمال العراقية، بدء فتح حوار استراتيجي بين بلاده والولايات المتحدة، لبحث مستقبل العلاقات بين الطرفين، إلا أن النية الأمريكية المعلنة التي حملها السفير ماثيو تولر، قد تتصادم مع مشكلة بقاء «ميليشيات الحشد» التي يدافع عن شرعية بقائها عادل عبد المهدي، ومن سبقه في هذا المنصب في الحكومات الطائفية السابقة، بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم «داعش» الإرهابي. وعلى العكس فهذا يعني استمرار العملية السياسية الطائفية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار السماح للحكومة العراقية المقبلة، الاستمرار في نهج إبقاء المليشيات الإيرانية لاستمرار فرض سيطرتها على بغـداد ومناطق الجنوب والفرات الأوسط.. وبمعنى آخر تموضع أمريكي خُصص لتقسيم العراق.
لا شك، في أن نجاح تصويت الأغلبية في البرلمان العراقي لمرشح من خارج أحزاب إيران، سيعتمد بالدرجة الأولى على دور حلفاء الولايات المتحدة من العرب الشيعة والسنة والكرد، وهذا يعني في حالة أن تم قبول مصطفى الكاظمي أو غيره من الذين تتبناهم الإدارة الأمريكية في الخفاء، من قبل أغلبية الشيعة العرب، يُعتبر انتصارا للمخطط الأمريكي المتمثل بسياسة العصا والجزرة، في سعيه لشق أحزاب إيران، من قتلة شباب الانتفاضة وسراق المال العام المتشبثين بكراسي السلطة، وتجييرهم لصالحه والسماح لهم في الاستمرار في قمع العراقيين، وسرقة ثروات العراق، في ظل الحماية والوصاية الأمريكية.

أمير المفرجي

القدس العربي