منذ العام ألفين وثلاثة والحكومات العراقية المتعاقبة ودون استثناء، ظلت تراوح في نفس المربع، وفي الوقت الذي تتقدم فيه خطوات معدودة للأمام، تعود إلى الوراءِ خطواتٍ أكثر، وهذه هي العلة، والأسباب كثيرة ومتشعبة، بعضها يستند على أسسٍ داخلية لُبُّها خلافات أيديولوجية أو براغماتية بالدرجة الأساس، وبعضها الآخر يعود إلى تدخلاتٍ إقليمية مرتبطة اما بالتبعية، أو بحرب مصالح، في حين يرجع البعض منها إلى أدوار ومصالح دولية ظاهرها المعادلات الدولية، وباطنها لعبة السيطرة، حساباتُ مصالح لا أكثر، والخاسر الأكبر هو العراق..
وفي الوقت الذي يمر فيه العراقُ بمرحلةٍ مفصليةٍ في تاريخه الحديث، وتحديداً خلال العام الأخير هذا، وعلى وجه التحديد فيما يخص الحكومة التي بدأت معضلتها المعقدة باستقالة رئيسها المنتخب عادل عبد المهدي، واعتذار خلفه المكلف محمد توفيق علاوي عن تشكيلها، أعقبه اعتذار المكلف الثاني عدنان الزرفي عن تشكيلها أيضاً، والأسباب لاعتذارهما يقف ورائها ظاهرياً خلافات سياسية داخلية، ويتمترس في جوهرها خلافات إقليمية ودولية، والتي أفضت إلى تكليف رئيس حكومةٍ بصورةٍ توافقيةٍ لم يحظى بها من سبقه، وعلى ضوئها قبل مصطفى الكاظمي بمهمة تشكيلها مؤخراً.
وبالتمعن في جوهر التفاؤل الذي يحيط بعملية تكليف مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة العراقية، مقارنةً بسابقيه، تبرز المبررات المنطقية التي تعطي للمتفائلين نفحة إقناعٍ لتفاؤلهم هذا، ويمكنني إيجازها في محورين أساسيين هما:
أولاً: على مستوى المقبولية الداخلية/ الوطنية، وفي الوقت الذي كان فيه كل من سبق الكاظمي من رؤساء حكومات هم من السياسيين والمسؤولين في ذات الوقت، كان الكاظمي مسؤولٌ فقط، ولم يكن سياسياً -بمعنى أنه لم يكن حزبيا أو تابعا لأي حزب أو مرشح من حزب أو جهة سياسية- وللتوضيح أكثر، غالباً ما برزت الخلافات بين الكتل والأحزاب السياسية حول ترشيح أو تكليف رئيس للحكومة من مرجعيةٍ سياسية بالدرجة الأساس، ثم على أساس المسؤولية الإدارية بالدرجة الثانية، والتي يدخل البعض من خلالها لتسقيط هذا المرشح أو ذاك، ونجحوا في هذا المسعى عموماً، خصوصاً مع كثرة المآخذ التي أخذوها على المرشحين الذين اما أبدوا اعتذارهم عن تشكيل الحكومة، أو تم رفض اختيارهم قبل تكليفهم.
لكن، مع مصطفى الكاظمي، كان الوضع مختلف تماماً، فالكاظمي أولاً وقبل كل شيء لم يكن سياسياً أو تابع أو منبثق أو من جهة سياسية، وهذا في تصوري ما جعله أكثر قرباً من التوافقية عليه من قبل أغلب إن لم يكن جميع الأحزاب والكتل والتحالفات السياسية العراقية والشارع العراقي والشباب المنتفض على حكوماته السابقة منذ نحو عام، فالجميع من كتل وأحزاب يسعون لأن يكون منصب رئيس الحكومة اما من نصيبهم، أو لا يكون من نصيب أحد، وهذه ميزة تفرد بها الكاظمي عن غيره، فضلاً عن أنه وحتى على مستوى المسؤولية الإدارية، لم يكن كسابقيه الذين تولوا مناصب إدارية سيادية أو كبيرة في هرم الدولة العراقية، ومثل تلك المسؤوليات غالباً ما تكون عرضةً للانتقاد وأخذ المآخذ عليها، لارتباطها بأمور مباشرة وملموسة للجميع، في حين كان الكاظمي ولسنوات رئيسا لجهاز المخابرات الوطني، وهو جهازٌ بطبيعته يعمل بصورةٍ سريةٍ غير ملموسة لأعين الجميع، فضلاً عن أن المهام المناطة بهذا الجهاز هي مهامٌ وطنيةٌ بالدرجة الأساس، وتحظى باحترام الجميع وتقديرهم، وبناءً على ذلك برزت ردود الأفعال الإيجابية المرحبة بتكليفه لتشكيل الحكومة من قبل جميع القوى السياسية العراقية، ومن لم يبارك تكليفه اكتفى بالصمت على أقل تقدير.
ثانياً: على مستوى المقبولية الإقليمية والدولية، وبالعودة إلى من سبق تكليفه قبل الكاظمي لتشكيل الحكومة، لاحظ الجميع ما كان يجري من ردود أفعالٍ عربية وإقليمية ودولية، تارة بصورٍ مباشرة، وتارة أخرى بصورٍ غير مباشرة، وجميعها كانت جلية بوضوح ولا تحتاج إلى تفسير، والنتيجة كانت مقبولية من طرفٍ يقابلها رفضٌ أو امتعاضٌ أو عدم رضى أو تخوف من طرفٍ آخر، إلا أن ما حصل مع تكليف الكاظمي مختلفٌ تماماً، والدليل على ذلك، وفور تداول وسائل الإعلام ووكالات الأخبار لموضوع تكليف رئيس الجمهورية برهم صالح السيد مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة العراقية، بادرت أطراف عربية وإقليمية ودولية بمباركة هذا القرار، وللتمثيل لا الحصر، بادرت دول عربية -ومنها الكويت والإمارات والأردن وغيرها- إلى مباركة هذه الخطوة وإبداء استعدادها لتقديم كافة وسائل الدعم والتعاون لمساعدة الكاظمي في المضي بإخراج العراق إلى بر الأمان، وهي ذات المواقف وردود الأفعال الدولية المباركة أيضاً، والتي نذكر منها الموقفين البارزين من قبل حليفتي بغداد، العدوتين اللدودتين، واشنطن وطهران المباركتين لهذه الخطوة، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن مصطفى الكاظمي شخص يحظى بمقبولية إقليمية ودولية كبيرة، وهذه هي الحالة المطلوبة لنجاحه في مهامه الصعبة والثقيلة الموكلة على عاتقه.
والسؤال الذي يبرز هنا… هل ستحرص القوى والأحزاب والكتل والتحالفات السياسية على الإمساك بهذه الفرصة الذهبية المتمثلة بتوافقٍ داخلي إقليميٍ دولي على تكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة العراقية؟ أم أن حرب مصالح أخرى ستطيح بكل شيء وتعيد العراق إلى نقطة ما قبل الصفر؟ وهل يدرك العراقيون جميعاً بسياسييهم ومثقفيهم ونخبهم أن الكاظمي قد يكون الفرصة الأخيرة المتاحة للعبور بالعراق إلى بر الأمان؟ الأيام المقبلة من تحمل الإجابة…
الدكتور عبد الله الشيخ
وحدة الدراسات العراقية