كان اجتماع الأحد الماضي تاريخياً من نواحٍ عدة، بغضّ النظرعن آثاره الفعلية في السوق. فقد أنهى حرب أسعار طاحنة لم تشهدها صناعة النفط العالمية منذ عشرينيات القرن الماضي، وأشرك الولايات المتحدة على أعلى المستويات، وهذا له انعكاسات سياسيّة وقانونيّة، وأدخل مجموعة العشرين لحلّ الأزمة، بما في ذلك وكالة الطاقة الدولية. وشهد الاجتماع تغيراً كاملاً في الموقفين السعودي والروسي، كما شهد اتفاقاً على تمديد تخفيض الإنتاج إلى 2022.
عندما قرّرت السعودية تخفيض أسعار النفط 7 مارس (آذار)، ثم رفعت بعد ذلك إنتاجها من 9.7 مليون برميل يومياً إلى أكثر من 12 مليون برميل يومياً، ظهرت نظريتان متنافستان. الأولى تقول إن هذا التغيّر في سياسة الرياض النفطيّة هو تغير دائم مُخطَّط له من فترة، ويهدف إلى تواؤم السياسة النفطية مع رؤية 2030. بينما يرى آخرون أن التغيّر مؤقت كان هدفه معاقبة روسيا وكل الدول في منظمة أوبك أو أوبك+ التي لا تلتزم تخفيض الإنتاج.
من الصعب الحكم على صحة أي من النظريتين الآن من دون أي تصريحات من صُنّاع القرار في السعودية، إلا أن اتّفاق الأحد له معنى عند كل نظرية.
فإذا أخذنا بالنظرية القائلة إنه كان تحولاً جذرياً طويل المدى، فهذا يعني أن الضغوط السياسية، بخاصة الأميركية، كانت كبيرة جداً لدرجة أن السعودية غيّرت موقفها، والأمر نفسه ينطبق على روسيا. ولكن لو نظرنا إلى نتائج ما بعد الاجتماع فإنه يمكن القول إن أميركا لعبت لعبتها السياسية، ولكن الرياض وموسكو لعبتا لعبتهما أيضاً. فما حصل من تخفيض أغلبه تحصيل حاصل؛ لأن النفط لن يُباع على كل الحالات بسبب الانخفاض الضخم في الطلب العالمي.
وعندما أعلنت “أرامكو” أسعارها الرسمية، رفعت الأسعار إلى الولايات المتحدة وخفّضتها بشكل كبير إلى آسيا وأوروبا. ونتيجة هذا هو استمرار أسعار النفط المنخفضة مع تحييد الضغط السياسي الأميركي تماماً.
إضافة إلى ذلك فإن السعودية حقّقت مكسباً سياسياً وقانونياً كبيراً من تدخل ترمب و13 سيناتور. فمطالبتهم الرياض ودول أوبك+ بتخفيض الإنتاج ألغى تلقائياً مشروع “لا أوبك” في مجلس الشيوخ، والذي لو تم تمريره لأخضع دول أوبك لقوانين محاربة الاحتكار الأميركية، والذي قد ينتهي بسيطرة الحكومة على بعض استثمارات دول أوبك داخل الولايات المتحدة.
ولمعرفة حجم النصر الذي حققته الرياض هنا، فلا بدّ من ذكر حقيقة مفادها أن ترمب أيّد مشروع هذا القانون منذ سنوات طويلة، وكتب عنه في كتابه المنشورعام 2011 بشكل مفصّل، وأيّده بشدة. لهذا فقد نجحت السعودية بجدارة هنا.
اقتصادياً، تهدف هذه السياسة إلى إخراج المنتجين مرتفعي التكلفة والأقل كفاءة والأكثر مديونية من السوق. كما تؤثر سلباً على نمو السيارات الكهربائية ومصادر الطاقة البديلة، وبالتالي فإنها تضمن نمواً أفضل للطلب على النفط. وهنا نجحت أيضاً رغم قصر الفترة الزمنية.
ولكن هذه النظرية لا تتفقّ مع التاريخ الطويل لصناعة النفط العالمية، حيث إن السوق تتطلب دائماً وجود مدير لها، وإذا انسحبت السعودية من السوق فإنه سيخرج مدير لها على كل الأحوال، وهذا ما رأيناه عندما أعلن ترمب عن ملء الاحتياطي الاستراتيجي مثلاً، أو فرض الهند ضرائب إضافية على المنتجات النفطية بهدف منع الطلب عليها بالزيادة بسبب انحفاض الأسعار.
المشكلة الأخرى أن انخفاض الأسعار يعني انخفاض الإيرادات النفطية، وبالتالي الإنفاق الحكومي والنمو الاقتصادي، في الوقت الذي تزيد فيه معدلات نضوب النفط.
خلاصة الكلام، هناك أدلة على أن الخطّة العامة الهادفة إلى إبقاء الأسعار منخفضة ما زالت موجودة بناءً على تسعير أرامكو لصادرات النفط. إلا أن هناك شكوكاً على بقائها لفترة طويلة، لأسباب تتعلّق بطبيعة السوق من جهة، والحاجة الماسة للإيرادات من جهة أخرى.
أما النظرية الثانية فإنها تقول إن حرب الأسعار كانت مؤقتة، ولكن نجاحها يتطلب سياسات توضح أنها طويلة المدى. فإذا عرف الآخرون أنها قصيرة المدة منذ البداية، فكل ما عليهم هو الانتظار، وبالتالي تفشل. وتهدف هذه السياسة إلى إجبار روسيا ودول أخرى على المشاركة في الإنتاج، ثم العودة إلى الدور التاريخي لإدارة السوق.
هنا نجد أن السعودية نجحت، حيث جلبت 35 دولة إلى طاولة المفاوضات، ووافقت روسيا على تخفيض كبير، بينما وافقت الدول الأخرى على تخفيضات يتجاوز مجموعها 15 مليون برميل يومياً.
بغضّ النظر عن هاتين النظريتين، فإنه من الواضح الآن أن مصلحة الرياض في ظل كورونا، وبالنظر إلى المستويين المتوسط والبعيد، أن تبقى أسعار النفط منخفضة إلى أطول فترة ممكنة. فبقاؤها كذلك يخفّض إنتاج الصخري والرمال النفطية بشكل كبير، كما يخفّض الإنتاج في عدد من دول العالم، الأمر الذي يعني حصة إنتاجية أكبر بأسعار أعلى مستقبلاً.
رفض المكسيك
هناك ثلاث نظريات بخصوص رفض المكسيك تخفيض الإنتاج بالحصة التي قسمت عليها من أوبك+، والتي بلغت 400 ألف برميل يومياً، حيث وافقت على تخفيض رمزي قدره 100 ألف برميل يومياً فقط. الأولى أنها قامت بالتحوط عند أسعار 49 دولاراً للبرميل، لذلك ليس في صالحها تخفيض الإنتاج. ولكن نظرة فاحصة لعمليات التحوط السابقة تبين أنه يمكن أن تستفيد من التحوّط وتخفّض الإنتاج من دون أي خسارة.
والنظرية الثانية تقول إن الرئبس المكسيكي يحاول إعادة هيكلة شركة النفط المكسيكية “بيمكس”، وبالتالي فإن تخفيض الإنتاج ليس خياراً. ولكن يُردّ على ذلك بأن موضوع هيكلة “بيمكس” جزء من خطة طويلة المدى، بينما موضوع كورونا وآثاره قصير المدى.
النظرية الثالثة هي أن انخفاض الطلب العالمي على النفط خفّض الطلب على الصادرات النفطية المكسيكية بمقدار الثلث. وبما أن البلاد تعاني من شحّ في إمدادات البنزين، وانخفاض معدلات تشغيل المصافي، قرّر الرئيس تحويل الكمية غير المباعة إلى المصافي، وهو بذلك يضرب عصافير عدّة بحجر واحد؛ يحلّ أزمة البنزين، ويزيد من نسبة التشغيل، ويقوّي “بيمكس”. وأخيراً، وهذا هو الأهم، تحقّق الميزانية إيرادات كبيرة من الضرائب على البنزين!
أنس بن فيصل حجي
اندبندت عربي