كعاداتها، يبدو أن جهات داخل النظام الإيراني غير قادرة على التخلي عن نظرتها التي تنتمي للقرون الوسطى ومحاكم التفتيش في محاسبة الأفكار والمواقف التي تصدر عن أي جهة كانت، من داخل النظام أو الدولة ومؤسساتها إذا كانت لا تتفق مع الإطار العقائدي والسياسي والاستراتيجي الذي تتبناه قيادة النظام، وتعمل على فرضه كوجهة وحيدة لإدارة البلاد والعباد في الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة.
من هنا، يمكن فهم رد الفعل الذي صدر عن عددٍ كبيرٍ من المسؤولين في النظام، خصوصاً مؤسسة حرس الثورة تعليقاً وتفنيداً لما جاء في تغريدة المتحدث باسم وزارة الصحة الإيرانية كيانوش جهانبور التي وصف فيها الإحصاءات الصينية حول أعداد ضحايا كورونا في هذا البلد بأنها “نكتة سمجة أو مرّة”. وشكّك بإمكانية الصين السيطرة على هذا الوباء خلال شهرين، ملمحاً إلى احتمال اتهام هذا البلد بإخفاء معلومات عن طبيعة هذا الفيروس وأسباب انتشاره بما يتوافق ضمناً مع الاتهامات التي وجّهها الرئيس الأميركي دونالد ترمب للقيادة الصينية في هذا الإطار.
عباس موسوي، المتحدث باسم وزارة الخارجية لم يرد بإعلان موقف رافض لتصريحات نظيره في وزارة الصحة، ومقدماً شبه اعتذار عمّا صدر عنه ومؤكداً ضرورة الاعتراف بالفضل الصيني على إيران في معركتها ضد الفيروس في هذه المرحلة، بما يوحي بأن توافقاً حصل بين مؤسسات النظام العسكرية والأمنية والسياسية حول توحيد الرؤية في التعامل مع الصين والحرص على استمرار هذه العلاقة بما يخدم مصالح النظام الاستراتيجية، خصوصاً أنّ مواقف الخارجية في مثل هذه الأزمات وهذه المسائل لا تتفرّد بها الإدارة الدبلوماسية بل تكون ترجمة لموقف ورؤية المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يحدّد الإطار العام للسياسيات والمواقف التي تصدر عن الخارجية حتى تلك التي يعبّر عنها المتحدث باسمها في مؤتمره الصحافي الأسبوعي.
إيران والسير على حد الكورونا
مؤسسة الحرس ودائرة التوجيه السياسي فيها لم تتردّد في التعبير المباشر عن شكوكها بوجود نوايا تستهدف العلاقات الاستراتيجية للنظام والتلميح إلى ضرورة التحقيق في “الأبعاد الخفية المحتملة” الكامنة في تصريحات جهانبور، وذهبت الى الحديث عن عودة الأصوات الداخلية التي تستهدف العلاقات الخارجية للنظام وتصوّب عليها، خصوصاً ما يتعلق باستراتيجية “التوجه نحو الشرق” وإظهار هذه الاستراتيجية بأنها عبثية وفاشلة.
يبدو أن مؤسسة النظام الإيراني تجد نفسها مستنفرة في هذه الأيام للدفاع عن علاقاتها الاستراتيجية التي عقدتها وكرّستها مع دول محور الشرق كالصين وروسيا، وتسعى إلى الرد على الاتهامات التي تستهدف هذه العلاقات وتصفها بـ”العبثية والفاشلة”، من خلال العودة إلى التأكيد أن الاستراتيجية التي تقوّم سياسات النظام تقوم على بدء الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية لإيران، وأن هذه العلاقات أو التوجه نحو الشرق يأتي من ضمن سياق هذه المصالح وفي صلبها، من دون أن يعني ذلك القطع الكلي مع المعسكر الغربي طالما اقتضت المصالح الإيرانية ذلك، وكانت دول هذا المعسكر على استعداد للتعامل مع إيران من خارج الإرادة الأميركية، لا بل أن العلاقة مع الولايات المتحدة لا تخرج أيضاً عن هذا الإطار ولم تتعارض مع الموقع الاستراتيجي لطهران في منطقة غرب آسيا وعلى الساحتين الدولية والإقليمية.
لقد أسهمت أزمة كورونا وسلسلة المواقف الداخلية الإيرانية ومن أكثر من جهة فاعلة، حول المسؤولية الصينية في أزمة تفشّي الوباء في إيران، والتي تلتقي بشكل ما مع مواقف الإدارة الأميركية في ذلك، بدفع الدوائر الاستراتيجية والممسكة بالقرار في النظام للعودة إلى إشكالية تعريف أو إعادة تعريف الأبعاد الاستراتيجية التي تربط بين طهران وبكين، إلى إعادة التأكيد على أن هذه العلاقة أفقية تقوم على مبدأ التوازن، ولا يمكن أن تكون علاقة عمودية وتبعية تتعارض مع الدستور الذي يؤكد عدم الانتماء للمعسكرين الشرقي والغربي والحفاظ على السيادة والاستقلال والعزّة الإيرانية، وأن توصيف الموضوع من وجهة نظر هذه الجماعة لهذه العلاقة يقوم على المصالح المشتركة، وأن تعزيز العلاقة مع الصين يصدر عن قراءة مستقبلية لدور بكين على الصعيد العالمي والمؤشرات لتحوّلها إلى مركز الثروة والسلطة في العالم مستقبلاً، على العكس من أوروبا وأميركا، وأن تعزيز التوجه نحو الشرق نتيجة الجهود الكبيرة التي بذلها النظام لتأمين المصالح الإيرانية من خلال تمسكه غير المنتج بالعلاقة مع المعسكر الغربي الأوروبي والأميركي بسبب المعوقات البنيوية التي تمنع تحقيق الأهداف الاستراتيجية الإيرانية.
ويستشهد أصحاب نظرية البعد القومي وتأمين المصالح الوطنية في العلاقة الاستراتيجية مع الصين وسائر القوى الدولية، أن إيران وفي خضم المعركة التجارية المحتدمة بين واشنطن وبكين، وفي ذروة العقوبات الأميركية ضد طهران، اشترت حاجتها من “الصويا” الأميركية، التي يمكن اعتبارها رسالة واضحة من إيران إلى الصين وأميركا في الوقت ذاته، بأنّ المصلحة القومية هي المحور الأساس في علاقاتها، وأنّ الأصوات التي ترتفع في الداخل منتقدةً التعاون مع الصين، خصوصاً في ظل الأزمات الناتجة من العقوبات الأميركية والحصار الاقتصادي الخانق لا تنظر إلى المصلحة الوطنية، بل تذهب إلى الاعتراض من باب توجيه الرسائل لشريحة في الداخل، تتبنّى موقفاً معارضاً لكل سياسات النظام من جهة، والخارج، وتحديداً واشنطن، تصبّ في إطار تعزيز الحصار على البلاد وتشديد العقوبات ضدها من جهة أخرى، ولأهداف محض سياسية ونشر حالة من الإحباط واليأس داخل المجتمع الإيراني نتيجة فشل سياسات النظام والمواقف التي يتّخذها في إطار العلاقات الدولية وتحديد مصالح طهران الاستراتيجية. وفي هذا الإطار، يتوقف أصحاب هذه القراءة عند تصرفات بعض مسؤولي حكومة روحاني، خصوصاً في وزارة الخارجية بعد التوقيع على الاتفاق النووي وتبنيّهم سياسات العودة إلى الانفتاح على المعسكر الغربي والابتعاد عن المعسكر الشرقي (روسيا والصين وشرق آسيا) بالاعتماد على الإنجاز الذي يتحقّق في الاتفاق النووي.
حدّة الجدل الداخلي حول الموقف من “الصين” في ما يتعلّق بأزمة وباء كورونا والمسؤولية المترتبة على بكين في عدم توفير المعلومات الوافية التي تسهم في مواجهة هذه الجائحة وعدم تفاقمها في إيران، يبدو أنها تتجه إلى مزيد من التصعيد، خصوصاً أنّ أصواتاً من داخل البرلمان بدأت ترتفع منتقدةً الأداء الصيني في هذا الإطار، وداعيةً إلى اتّخاذ إجراءات تأديبية، ما دفع القوى والجناح المؤيد للنظام، ولا سيما المؤسسة العسكرية في حرس الثورة، إلى وضع هذه المواقف في سياق الدعوة إلى الفتنة واستهداف المصالح الاستراتيجية العليا للنظام، والتذكير بالفتن التي قادها التيار الإصلاحي الذي بدأ الآن يرفع شعار الدفاع عن مسلمي الإيغور، متناسياً أنه مَن رفع شعار “لا لبنان ولا غزة”، متجاهلاً أنّ ما يحكم العلاقة بين طهران والصين في ظل الحصار الاقتصادي هو المصالح المتبادلة فقط.
ولم تتردّد هذه الجهات في حرس الثورة من وصف المنتقدين للعلاقة مع الصين بـ”المتآمرين” الذين استنفروا خدمة للعقوبات الأميركية وسعياً وراء قطع آخر القنوات التي يتنفّس منها الاقتصاد الإيراني المحاصر، من أجل إخضاع طهران، ولم يرتقوا إلى مستوى التعامل الاستراتيجي من أجل المصالح القومية وضرورة أن تستغلّ إيران كل الطرق التي تسمح بفتح طرق التجارة مع الشرق أو الغرب، بعيداً من التوظيف السياسي.