ساهمت تركيا من خلال تحركاتها في شمال العراق، ومن حيث لا تدري، في إحداث نقلة على مستوى العلاقة بين إقليم كردستان والإدارة الذاتية في شمال سوريا، ولئن تبدي الأوساط الشعبية الكردية ارتياحا لهذا التحول فإن كثيرين يتشككون في مدى استمراريته.
دمشق – تشهد العلاقة بين إقليم كردستان العراق و”روج آفا” في شمال سوريا تقاربا ملحوظا في الأشهر الأخيرة، وسط تساؤلات حول ما إذا كان هذا التحول سيؤسس لتحالف بين الجانبين أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد رسائل سياسية من حكومة كردستان بامتلاكها ما يكفي من الأوراق لمواجهة تحركات تركيا في شمال العراق.
وتبدي تركيا اهتماما متزايدا بالساحة العراقية مستغلة ترهل القبضة الإيرانية نتيجة الصراع الجاري مع الولايات المتحدة وعجز طهران عن احتواء تفشي فايروس كورونا الذي بات يهدد بتعجيل انهيارها، فضلا عن تخبط وارتباك القوى الموالية لإيران التي تجد صعوبات في إرضاء الشارع العراقي الذي كسر حاجز الخوف وانتفض ضد حكمها في أكتوبر الماضي.
وتسعى أنقرة لتعزيز الروابط مع السلطة المركزية في بغداد، بالتوازي مع زيادة دعمها لقوى وشخصيات سنية ذات توجهات إخوانية على غرار الحزب الإسلامي، مع التركيز على المكون التركماني الذي يبدي ولاء ملفتا لتركيا يتجاوز حتى ولاءه للدولة العراقية، وتتخذ منه أنقرة “حصان طروادة” للتغلغل في العراق.
ويتمركز التركمان في شمال العراق لاسيما في محافظة كركوك، وتراهن أنقرة على هذا المكون لبسط نفوذها على المحافظة الغنية بالنفط، والتي يحاول أكراد العراق جاهدين استعادتها بعد طرد قوات البيشمركة منها في العام 2017 على خلفية الاستفتاء الشعبي على استقلال إقليم كردستان والذي حشدت بغداد وأنقرة وطهران كل طاقاتها لإجهاضه.
وتنظر حكومة إقليم كردستان بقلق شديد للتحركات التركية لاسيما في شمال العراق، وما يمكن أن ينتج عنه من تهديد مباشر لها ولطموحاتها باستعادة السيطرة على كركوك. ويقول المراقبون إن هذا الوضع فرض على الإقليم البحث في خيارات وأوراق للضغط على أنقرة، ولعل من بينها الانفتاح على الإدارة الذاتية في شمال سوريا.
واحتفت الأوساط الشعبية الكردية في سوريا والعراق، مؤخرا، بمبادرة رئيس إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني بإرسال مساعدات طبية إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية بينها أجهزة متطورة للكشف عن فايروس كورونا، في ظل عجز الأخيرة عن الحصول على دعم دولي أو من النظام السوري الذي سبق وانتقدت تراخيه في مساعدتها لمجابهة إمكانية تفشي الوباء في تلك الأنحاء.
وأعرب قائد قوات سوريا الديمقراطية التي تتزعمها وحدات حماية الشعب الكردية، مظلوم عبدي، عن امتنانه قائلا “كل الشكر والتقدير لرئيس إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني على استجابته السريعة والكريمة لطلبنا في إرسال مختبرين طبيين للكشف عن فايروس كورونا، وسعيه لإرسال المزيد منها دعماً لجهودنا في مكافحة هذه الجائحة”.
وكانت مصادر محلية ذكرت بأن المختبرين يرافقهما طاقم طبي من إقليم كردستان وصلا الأسبوع الماضي إلى مدينة القامشلي (شمال شرق)، وتم تركيبهما في أحد الأبنية التابعة للوحدات الكردية وسط المدينة.
وأوضح المشرف على الفريق الطبي الذي تم استقدامه من كردستان العراق لتدريب أطباء في شمال سوريا هيثم أبوخديجة في تصريحات لشبكة “رووداو” الكردية “بناء على توجيهات رئيس الاقليم نيجيرفان البارزاني، قمنا بتزويد وتقديم أجهزة من النوع المتطور لتقديم العمل في المختبرات الخاصة بفايروس كورونا في مناطق كردستان سوريا”.
وأشار إلى أن “الأهالي كانوا فرحين بمستوى الأجهزة المتطورة من الناحية العلمية”، مشيراً إلى أن “نحو 400 إلى 500 عملية فحص تجرى يومياً للمواطنين عبر هذه الأجهزة، ويتم تقديم مستلزمات سحب العينة وتوصيلها وعمل فحوصات فايروس كورونا بالشكل المطلوب”.
وشدد على أنه “لم تكن هناك فحوصات للفايروس، قبل وصولنا للمنطقة، مثلما هو متبع بجميع دول العالم”، مبيناً أن “ما قمنا به هو حمل هذه الأجهزة والمختبرات إلى هناك، بناء على توصيات شخصية من رئيس إقليم كردستان وعلى نفقته الخاصة”.
وتأتي خطوة إقليم كردستان لتراكم المزيد من الإنجازات في المسار الذي بدأ منذ فترة لتحسين العلاقات مع قيادة الإدارة الذاتية التي يتولاها الاتحاد الديمقراطي.
وكانت حكومة إقليم كردستان العراق قد لعبت مؤخرا دورا أساسيا في المفاوضات بين الاتحاد الديمقراطي الكردي، وبين والمجلس الوطني. وأفرزت تلك المفاوضات جملة من التوافقات لعل من بينها سماح الاتحاد الديمقراطي للمجلس الوطني بإعادة فتح عدد من مكاتبه في المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية والتي تعرف بـ”روج آفا”.
والمجلس الوطني هو تحالف لنحو 15 حزبا تشكل بعد اندلاع الأزمة السورية في العام 2011، وكان يمثل المكون الكردي داخل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي يتخذ من اسطنبول مقرا له. ولطالما اتسمت العلاقة بين أحزاب المجلس الوطني وحزب الاتحاد الديمقراطي بالتوتر في ظل التباين الفكري القائم بينهما (مرجعيتي مسعود برزاني وعبدالله أوجلان) والصراع على قيادة الأكراد في سوريا. وازداد الوضع سوءا بين الجانبين حينما انتصر المجلس للمعارضة السورية المدعومة من تركيا، فيما فضل الاتحاد الدخول في تحالف غير معلن مع النظام السوري، نجح من خلاله في وضع يده على العديد من المناطق في شمال سوريا بعد انسحاب الجيش والأمن السوريين منها.
ويلقى المجلس الوطني الكردي دعما لا متناهيا من قبل حكومة أربيل التي تشرف منذ العام 2014 على تدريب الآلاف من عناصره في معسكرات في شمال العراق، يرفض الاتحاد الديمقراطي عودتهم إلى شمال سوريا.
ويقول محللون إن الانفتاح المسجل بين المجلس الوطني والاتحاد الديمقراطي هو انعكاس للتحسن في العلاقة بين الأخير والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق.
ويلفت المحللون إلى أنه من الصعب الجزم بالمدى الذي ستبلغه العلاقة بين قيادة إقليم كردستان العراق وقيادة الإدارة الذاتية، مبدين تشككا في دوافع هذا الانفتاح لاسيما وأنه جاء على خلفية التحركات التركية شمال العراق.
ويرجحون أن تحرك قيادة إقليم كردستان صوب أكراد سوريا نابعا من الخشية من النوازع التركية التي بدأت تتضخم في الفترة الأخيرة لتشكل خطرا جديا يطرق أبوابهم.
وتعتبر أنقرة الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب تهديدا مباشرا لأمنها القومي لجهة تمسكه بمشروع إقامة حكم ذاتي على حدودها. وتزعم تركيا وجود صلات تنظيمية للحزب وذراعه العسكرية بحزب العمال الكردستاني الذي ينشط على أراضيها وخاض معها منذ ثمانينات القرن الماضي صراعا مريرا. وشنت تركيا ثلاث عمليات عسكرية تستهدف الذراع العسكرية للاتحاد منذ العام 2016 كان آخرها في أكتوبر الماضي وانتهت بصفقة شاركت فيها روسيا تقوم على تراجع الأكراد إلى نحو 30 كلم داخل الأراضي السورية.
ويريد إقليم كردستان العراق من خلال انفتاحه على الاتحاد الديمقراطي اللعب على هذا الوتر وإرسال رسائل لأنقرة بأنه مستعد للذهاب بعيدا وتوحيد الصف الكردي لتحويل حلم الدولة الكردية إلى واقع، في حال أصرت على سياساتها التوسعية في شمال العراق.
ومن غير المرجح أن تلقى هذه الرسائل صدى لدى تركيا التي تدرك بأن لا الدول المجاورة الأخرى ستقبل بتحويل الحلم الكردي إلى حقيقة والدليل تجند الجميع ضد استفتاء 2017، ولا الأكراد أنفسهم لديهم الإرادة الفعلية للذهاب في هذا المسار في ظل هوس الزعامة الذي يسكن قادتهم، وهنا يستحضر المثل الكردي القائل “الجميع عدو الحجل والحجل عدو نفسه”.
العرب