تصاعد الجدل الأوروبي حول الحمائية مع دعوات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا إلى وضع آلية على مستوى أوروبا لإجراءات فحص أكثر صرامة لعمليات الاستحواذ الأجنبية. وتأتي هذه الخطوة وسط مخاوف متزايدة من فقدان ميزة المنطقة في التكنولوجيا، ونقل ما يُسمى “التقنيات ذات الاستخدام المزدوج” إلى الصين، وتعمل الحكومات الأوروبية على تعزيز الحماية ضد عمليات الاستحواذ مع تنامي المخاوف من أن الشركات التي انخفضت أسعار أسهمها بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا ستكون عرضة للاجتياح الصيني.
القلق من وضع الصين يدها على شركات استراتيجية أوروبية دعا رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، في سبتمبر (أيلول) الماضي إلى إنشاء إطار على مستوى القارة العجوز لفحص صفقات الاستثمار من قبل الشركات الأجنبية. وفي العام الماضي، أصدر البرلمان الألماني قانوناً يسمح بتدقيق الصفقات على أساس الأمن القومي إذا وصلت حصة المستثمر إلى 25 في المئة. ودعوة يونكر لإنشاء إطار لفحص الصفقات قد تكون عقيمة فعلياً، إذ لا توجد سوى آلية فحص في 12 دولة فقط من الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي.
لكن الدفع السياسي للتشدد تجاه بكين يواجه عقبات كبيرة لسبب واحد يتمثل في مخاطر إغضاب بكين، فلا تزال الشركات الأوروبية حريصة على الاستثمارات الصينية، كما تشعر الحكومات الأوروبية بالقلق من الإساءة إلى هذا البلد الآسيوي في الوقت الذي تضغط فيه من أجل الوصول بشكل أفضل للعملاء الصينيين.
انقسام تجاه الصين
أوروبا انقسمت حول كيفية التعامل مع صعود الصين، حيث عارضت اليونان والمجر ودول جنوب ووسط أوروبا الأخرى الأكثر فقراً التي استفادت من سخاء الصين خلال الأزمة المالية العالمية في 2007 و2008، تشديد الرقابة خشية تثبيط المزيد من الاستثمارات الصينية، فيما تنظر دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بعين الريبة لمحاولات بكين الهيمنة على محرك وقلب أوروبا وهو المتمثل في التكنولوجيا المتقدمة.
وبحسب معهد “ميركاتور” للدراسات الصينية، واصل الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في الاتحاد الأوروبي الانخفاض في عام 2018. وأكملت الشركات في البلد الآسيوي معاملات الاستثمار الأجنبي المباشر بقيمة 17.3 مليار يورو (18.9 مليار دولار أميركي)، وهو ما يمثل انخفاضاً بنسبة 40 في المئة عن مستويات عام 2017 وأكثر من 50 في المئة عن ذروة الاستثمار في عام 2016، والتي بلغت 37 مليار يورو (40.6 مليار دولار).
ويتماشى هذا الانخفاض إلى حد كبير مع الانخفاض الإضافي في الاستثمار الأجنبي المباشر للخارج العالمي للصين، وهو اتجاه يمكن أن يُعزى إلى استمرار ضوابط رأس المال وتشديد السيولة في بكين، بالإضافة إلى التدقيق الرقابي المتزايد في الاقتصادات المضيفة، ومع تفشي فيروس كورونا في أوروبا وما صاحبة من تداعيات تسببت في هبوط حاد في أسواق المال الأوروبية وتركيع الوباء لشركات استراتيجية شهدت أسهمها هبوطا حاداً، أطلت الصين مجدداً برأسها لتشتري تلك الشركات أو أسهم فيها بأسعار زهيدة لم تكن تحلم بها بكين، ووفقاً لدراسة أجرتها مجموعة أبحاث الروديوم، وجدت أن معظم الاستثمارات الصينية جاءت من مجموعات تسيطر عليها الدولة.
ومع قمع بكين للشركات الأوروبية المثقلة بالديون، عملت الحكومات في القارة العجوز جاهدة لتشديد اللوائح لإجهاض سيطرة الصين على الشركات الأوروبية الاستراتيجية.
ألمانيا تشدد القواعد
وبحسب “المجلس الأوروبي للعلاقات الأجنبية”، فقد خضع نفوذ بكين في ألمانيا للتدقيق منذ عام 2016، عندما اختطف مستثمرون صينيون العديد من شركات التكنولوجيا الألمانية. وأعرب المسؤولون في برلين عن قلقهم من أن عمليات الشراء ستضر بالدور التكنولوجي لألمانيا في قطاعات مثل الروبوتات ومصادر الطاقة الجديدة. وقد شعروا بالغضب من السهولة التي يمكن بها للصين شراء شركات التكنولوجيا الفائقة في السوق المفتوحة لألمانيا، ثم استخدام الخبرة المكتسبة حديثًاً لإنشاء أبطال وطنيين في السوق الصينية المحمية.
وربما دفعت تلك الانتقادات وزارة الاقتصاد الألمانية، إعلانها اعتزام تشديد القواعد على عمليات الاستحواذ من خارج الاتحاد الأوروبي على شركات التكنولوجيا الفائقة، على خلفية تنامي القلق بشأن قيام الشركات الصينية بشراء المعرفة الألمانية.
وقالت الوزارة إنها صاغت تعديلاً على قانون التجارة الخارجية يسمح للحكومة بمراجعة أو منع المشتريات الأجنبية من حصص منخفضة تصل إلى 10 في المئة في شركات “التكنولوجيا الحيوية”. ويتوقع أن يؤثر ذلك على الشركات العاملة في مجالات الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وشبه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية.
وأضافت في بيان “لا يتعلق الأمر بحظر عمليات الاستحواذ، ولكن بالقدرة على النظر إليها عن كثب في الحالات التي تتعلق فيها بالتقنيات الحرجة”. وتتجاوز هذه الخطوة الجهود السابقة التي بذلتها برلين لحماية الشركات الاستراتيجية من عمليات الاستحواذ الأجنبية.
وقد تصاعد القلق في السنوات الأخيرة، حيث اشترت الشركات الصينية حصصاً مسيطرة في شركات التكنولوجيا الفائقة والمطارات والموانئ في دول الاتحاد الأوروبي.
وفي ألمانيا، أثار استحواذ شركة ميديا الصينية لصناعة السلع المنزلية عام 2016 على الروبوتات الصناعية (كوكا) غضباً من النقاد قائلين إن التقنيات الحيوية تم بيعها إلى بكين، وردت الحكومة في عام 2017 بإعلانها تدقيقاً دقيقاً لعمليات الاستحواذ من قبل الشركات خارج الاتحاد الأوروبي، ومضاعفة الوقت إلى أربعة أشهر للمراجعات، وتعزيز سلطات النقض.
وشددت برلين موقفها مرة أخرى في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بقواعد أكثر صرامة لحماية قطاعات “البنية التحتية الحيوية” مثل الطاقة والدفاع والاتصالات من عمليات الاستحواذ هذه. وقد أتاحت هذه اللوائح للحكومة مراجعة المشتريات من حصص منخفضة تصل إلى 10 في المئة في هذه الشركات، بانخفاض عن 25 في المئة في السابق، لكنها ما زالت لا تغطي شركات مثل (كوكا)، وهو ما يسعى اقتراح بيتر ألتماير، وزير الاقتصاد الألماني إلى معالجته.
ماذا قال رئيس وزراء الصين؟
خلال زيارة إلى برلين في يوليو 2018، سعى رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ، إلى طمأنة الألمان القلقين، وقال إن الاستثمارات الصينية “لا تهدد أمنكم القومي”، مؤكداً أن شركات بلاده تريد أن تتعلم من “الخبرات والتكنولوجيات” الألمانية.
في الشهر نفسه، استحوذت الحكومة الألمانية على حصة أقلية في شركة نقل الكهرباء (50 هرتز)، من أجل إحباط سعي المستثمرين الصينيين لشراء حصص فيها.
وفي حالة أخرى العام الماضي، اقتربت برلين من استخدام حق النقض للمرة الأولى لوقف بيع الشركة المصنعة للأدوات الآلية Leifeld Metal Spinning لشركة Yantai Taihai الصينية، مع تخلي Yantai بشكل استباقي عن عرضها، وتجنبت الحاجة إلى حق النقض.
القلق الأرووبي وتنامي النفوذ الصيني
ألمانيا ليست وحدها التي تحارب لكبح شهية الصين للشركات الأوروبية، حيث إن سيارات فولفو السويدية وصانع الإطارات الإيطالي Pirelli ومجموعة العطلات الفرنسية Club Med انتقلت جميعها إلى أيدي الصينيين خلال هذا العقد.
وقال بيتر ألتماير، إن الشركات الألمانية تتنافس بشكل متزايد ضد المنافسين الذين استفادوا من تدخل الدولة والسياسات الحمائية.وأضاف لوكالة الأنباء في بلاده (د.ب.أ) “هذه معركة غير متكافئة تخسرها شركاتنا أكثر فأكثر.”
تأتي حملة وزير الاقتصاد الألماني الأخيرة للحد من موجة الشراء في الصين في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة ضغوطاً لاستبعاد عملاق التكنولوجيا الصيني هواوي من تطوير شبكة الهاتف المحمول (الجيل الخامس).
ويقول منتقدون بقيادة واشنطن إن هواوي لديها علاقات وثيقة مع الحكومة الصينية وقد تستخدم معداتها للتجسس وهو ما نفته هواوي بشدة، في وقت قاومت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حتى الآن، الدعوات لحظر الشركة من عملية تقديم العطاءات، قائلة إن المشاركين في طرح G5 سيكون عليهم الامتثال لمعايير الألمان الصارمة.
لكن المعارضين يتهمون حكومتها بالانحناء للقوة الاقتصادية للصين، أكبر شريك تجاري لألمانيا. وتحرص ميركل على الإبقاء على تنمية العلاقات مع بكين، وخصوصاً أن الصين أصبحت سوقاً مهمة لشركات مثل “فولكس فاجن”، العملاق الألماني وأكبر صانع سيارات في أوروبا.
مخاوف فرنسا
ولا يخفي الساسة في أوروبا قلقهم من تنامي النفوذ الصيني في عمليات الاستحواذ، وهو ما دعا على سبيل المثال وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، في زيارة لبكين في يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى التصريح بأن باريس سترحب بالاستثمار من الصين، ولكن فقط بعد فحص الصفقات لضمان عدم “نهب” الأصول الفرنسية.
ومع ذلك، فإن العديد من الحكومات الأوروبية تضغط من أجل تشديد مراجعات الاستثمار الأجنبي في الوقت الذي تشرع فيه الصين في دفع كبير لتحويل اقتصادها إلى قوة عظمى متطورة، وهي سياسة طموحة تعرف باسم “صنع في الصين 2025”.
دول العالم تتصدى للاستحواذات الصينية
تضغط أوروبا من أجل فحص أكثر صرامة للاستثمارات الأجنبية، مع التركيز على بكين. وكانت دول أخرى في العالم مثل أستراليا منعت عروض المشترين الصينيين للأصول الاستراتيجية. وفي كندا، ينظر لمحاولات الاستحواذ الصينية على أنها اختبار للأمن القومي في البلاد.
إنه مزيج من المواقف السياسية والفخر القومي والبارانويا الصريحة. لكن الصين تقدم أحجية سياسية صعبة، ويجب أن توازن الدول بين حماية صناعاتها الاستراتيجية ومنع فقدان التقنيات الحساسة، مع الاستمرار في جذب المستثمرين الصينيين وتحسين التجارة مع بكين.
قال فيليب لو كوري، أخصائي صيني وكبير زملاء مدرسة هارفارد كينيدي “هناك انطباع عام بأن الصين تنهض على جميع الجبهات، والسؤال هو كيفية التعامل مع ذلك، فمعظم البلدان لا تعرف كيف تتصرف”.
يبدو أن الولايات المتحدة تتخذ أكثر الخطوط صرامة تجاه بكين. قرار الرئيس ترمب الأخير بمنع عرض عدائي من قبل شركة Broadcom ومقرها سنغافورة لشركةٍ منافسة “كوالكوم الأميركية للرقائق”، انهار بسبب مخاوف من أن الاستحواذ يمكن أن يمنح المنافسين الصينيين ميزة. ومن المرجح أن تصبح اللجنة التي استعرضت صفقة كوالكوم، المعروفة باسم “سيفيوس”، أكثر صرامة في الصين.
وبالفعل ألغت اللجنة، التي يمكن أن تمنع بشكل أساس عمليات الاستحواذ الأجنبية للشركات الأميركية لأسباب تتعلق بالأمن القومي، عدداً من الصفقات من قبل المشترين المرتبطين بالصين، في وقت يدعو المشرعون الآن إلى توسيع أنواع المعاملات التي يمكن للجنة فحصها.
اندبندت عربي