يعد الضابط التركي إينال تاركان كلمة السر في التطورات العسكرية الأخيرة في صبراتة وصرمان، وقبلها قاعدة الوطية. يحضر إلى جانب اسم تاركان سفير تركيا في ليبيا سرحت أكسن. ويتولى الإثنان عملية تنسيق وإدارة العملية التركية في ليبيا، إلا أن تاركان يلعب الدور الأبرز والأكبر وذلك من خلال ترتيب الخطط مع الميليشيات وتحريك هذه الأخيرة وفق أجندته بما يقرب تارة ويؤجج نيران الخلافات تارة أخرى ضمن لعبة تم فيها تغييب رئيس حكومة الوفاق فايز السراج.
أخذ اسم ضابط تركي شاب، يدعى إينال تاركان، يتردد، منذ بضعة أسابيع، في أوساط قادة الجماعات المسلحة في شمال غرب ليبيا، خاصة في طرابلس ومصراتة والزاوية. تقول الأخبار عنه إنه شاب نشط ويعمل بلا كلل ولا ملل لعرقلة تحركات الجيش الوطني الليبي، حتى لو كان ذلك باستهداف بلدات مسالمة وتؤيد الجيش، مثلما حدث في صرمان وصبراتة مؤخرا.
ظلت تركيا طوال الشهور الأخيرة تنظر إلى الحرب في شمال غرب ليبيا باعتبارها تدور بين قوّتين رئيسيتين، هما قوات الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج.
العالم أيضا ما زال يتعامل مع هذا الأمر كحقيقة مسلم بها، بينما الواقع يقول عكس ذلك، فكل ميليشيا من الميليشيات التابعة للسراج تدير نفسها كغرفة علميات منفصلة عن الغرف الأخرى، رغم أنها جميعا تحارب ضد الجيش الليبي.
الضابط تاركان (وينطق أيضا طارقان) يتعامل مع الفسيفساء المسلحة في شمال غرب ليبيا بطريقة مختلفة، مستعينا بخبرته التي اكتسبها من خلال مشاركته في إدارة شؤون الجماعات الإرهابية في شمال سوريا. الطريقة ببساطة “اضرب في أي مكان حتى تستطيع أن تربك الخصم”.
تسعى تركيا لكسر قوة الجيش الوطني الليبي منذ أن اقترب من أبواب طرابلس في أبريل العام الماضي، وتصمم على هدفها هذا رغم هزيمة الجماعات المسلحة الموالية لها على يد الجيش نفسه في بنغازي ودرنة ومدن الجنوب في الأعوام الثلاثة الماضية.
وتعي أنقرة أن سيطرة الجيش على كامل تراب ليبيا تعني خسارتها لموارد مالية ضخمة تأتي إليها على طبق من ذهب من ثروات الليبيين، لذلك وقعت مع فايز السراج، في نوفمبر الماضي، اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني والعسكري.
استغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الاتفاقيات في إدارة الصراع في ليبيا بنفسه. وإضافة للدعم العسكري الموجه إلى الميليشيات مباشرة، أشرف في الشهور الأخيرة على تغييرات أخرى غير عسكرية، منها ما يخص البنية التشريعية والمصرفية والمحاسبية.
تعتقد مصادر أمنية في طرابلس، تحدثت مع “العرب”، أن رجال أردوغان كانوا في ذلك الوقت يخططون للدفع بوجوه عسكرية جديدة، من بينهم الضابط تاركان. وتقول تقديرات أمنية في طرابلس إن قيمة الأسلحة التي اشترتها حكومة السراج من تركيا بلغت أكثر من عشرين مليار دولار، خلال الفترة من تاريخ توقيع اتفاقية نوفمبر إلى شهر أبريل الجاري، ناهيك عن رواتب المقاتلين المرتزقة الذين ترسلهم تركيا للقتال مع قوات السراج.
وعززت أنقرة أيضا من قدرات ما يسمى بـ”برلمان طرابلس”، المنشق عن البرلمان الشرعي. كما تمكنت من تحصيل فواتير بملايين الدولارات بحجة علاج الجرحى الليبيين في مستشفياتها. ووقفت وراء تأجيل ملفات التحقيق مع متهمين (محسوبين على جماعة الإخوان) بتبديد الأموال العامة في طرابلس. بالتزامن مع هذا أشرف عملاء تركيا في ليبيا على تنفيذ عمليات قذرة ضد الجيش الوطني، وضد مرافق الدولة، منها مثلا ما حدث في مدينة غريان (90 كيلومترا جنوب طرابلس)، حين استهدفت مجموعة إرهابية جرحى الجيش في مستشفى المدينة، في عملية غادرة، في يونيو الماضي.
حاولت قوات تابعة لقائد المنطقة العسكرية الغربية اللواء أسامة الجويلي استهداف قوات الجيش في قاعدة الوطية (نحو 140 كيلومترا غرب طرابلس) في الشهر الماضي، لكنه كان هجوما فاشلا.
وفقا لتصريح مصدر أمني ليبي شارك الضابط تاركان في مناقشة فشل خطة الوطية، لـ”العرب”، “كانت هذه هي المرة الأولى التي نرصد فيها وجوده في طرابلس، كان السفير سرحت أكسن (سفير تركيا في ليبيا) يعول عليه”.
تعي أنقرة أن سيطرة الجيش على كامل تراب ليبيا تعني خسارتها لموارد مالية ضخمة تأتي إليها على طبق من ذهب من ثروات الليبيين
ورغم الإنفاق الضخم للسراج على الأسلحة والطائرات المسيرة والمستشارين العسكريين الأتراك والمرتزقة، إلا أن نظام أردوغان كان يشعر أن الجيش الوطني يتقدم بخطوات حثيثة. ويستحوذ على تعاطف القوى الشعبية. ويقيم التمركزات العسكرية والدفاعية في نقاط يصعب على الطائرات المسيرة الوصول إليها.
بدأت تحركات الجيش عموما تثير القلق لدى النظام التركي، ووجد أردوغان أحلامه العثمانية في ليبيا تتبخر أو على المحك، والفشل يمكن أن يزيد من عزلته السياسية في الداخل التركي، وفي العالم أيضا. والتراجع “الأردوغاني” في ليبيا تتبعه حسابات أخرى لسياسة أنقرة في سوريا ومع روسيا ومع دول أوروبا خاصة الواقعة على البحر المتوسط.
لذلك غيرت أنقرة من طريقة عمل مستشاريها من عسكريين ورجال مخابراتها في ليبيا بشكل لافت في الأسابيع الأخيرة، وفقا لمصدر أمني ليبي في طرابلس. واعتمدت أنقرة على خطط أخذ تاركان ينفذها بحرفية كبيرة، بإشراف من أكسن. تعتمد هذه الخطط على التواصل والتنسيق مع قادة الجماعات المسلحة، من خلف ظهر السراج، ومنح كل جماعة ما تريد بشرط تنفيذ التوجهات التركية في النهاية.
لم يعلم السراج بأسباب انسحاب مقاتلي مدينة الزاوية بشكل مفاجئ من طرابلس، ولم يعلم أيضا بما يدور من تنسيق يشرف عليه تاركان بين قوات من مصراتة والزاوية، ومع كل من له مصلحة في اقتحام صرمان وصبراتة.
علم السراج بالأمر بعد بدء الهجوم، وكما يحدث عادة، نسب السراج ما حدث كله له باعتباره تفوقا لقواته على قوات الجيش الوطني، مع احتفاء كبير من جانب المنظومة الإعلامية التابعة لتركيا، منذ دخول الميليشيات صرمان وصبراتة حتى اليوم.
رصدت إحدى الأجهزة الأمنية الليبية في العاصمة نشاط تاركان منذ منتصف مارس، ومنه يفهم أن عمل هذا الضابط التركي ينصب على منهجين. الأول مهاجمة المدن الهشة الموالية للجيش الوطني، أي التي لا توجد فيها قوات عسكرية بشكل كبير تابعة لقوات الجيش، مثل صرمان وصبراتة، فالأمن في المدينتين كانت تشرف
عليه قوات شرطية موالية للحكومة المؤقتة (تابعة للجيش الوطني)، دون وجود قوات عسكرية تذكر.
والمنهج الثاني، أن تاركان يتجنب جمع زعماء الجماعات المسلحة في بوتقة واحدة، أو إخطار السراج بما يقوم به مسبقا. ويقول ضابط في الاستخبارات الليبية “لم يجتمع تاركان معهم على طاولة واحدة أبدا، منذ قدومه إلى طرابلس، ويدير أغلب عمليات التنسيق الحربية على الأرض بالاتصالات اللاسلكية والهواتف المرتبطة بالأقمار الاصطناعية، ينسق مع السفير أكسن، نعم. لكن لم نرصد له تنسيقا مع السراج”.
من بين ما يمكن التقاطه من “دردشة” قادة في ميليشيات قريبة من قاعدة الأتراك في معيتيقة بطرابلس، يمكن أن تتخيل تاركان وهو يخطط على خرائط إدارة المعارك المكومة فوق مكتبه، ويقوم في الوقت نفسه بتوزيع شحنات الأسلحة والطائرات المسيرة التي ترسلها له بلاده في سفن وفي طائرات شحن. كان السفير أكسن يظهر بنفسه بين الضباط الأتراك في القاعدة أثناء تفريغ حاويات الأسلحة.
وظهر اسم الضابط تاركان على الساحة الليبية عقب تغييرات أجراها نظام أردوغان في المنظومة الأمنية التركية مطلع هذا العام، كما يعتقد مسؤول في الجهاز الأمني المشار إليه في طرابلس، “يبدو أنهم سحبوه من جبهة سوريا، وأعادوا تأهيله في أنقرة، ثم دفعوا به أخيرا إلى هنا”.
وجد أردوغان أحلامه العثمانية في ليبيا تتبخر أو على المحك، والفشل يمكن أن يزيد من عزلته السياسية في الداخل التركي، وفي العالم أيضا
ما زالت بعض الأجهزة الأمنية الليبية تعمل بحرفية كبيرة ولديها محددات وطنية، وتنظر للنشاط التركي في ليبيا باعتباره تدخلا سافرا. وهي الآن تراقب الضابط تاركان باعتباره من أخطر رجال المخابرات الأتراك الذين وصلوا إلى ليبيا، على الرغم من ضعف إمكانيات هذه الأجهزة وخشية قادتها من الميليشيات المدججة بالأسلحة في طرابلس.
وكان السفير أكسن يتابع بإعجاب خطط الضابط تاركان الذي تمكَّن من أن يبرهن على قدرته على إدارة العمل على البر، كما كان يفعل في سوريا، مع أن تخصصه الأساسي هو “ضابط مخابرات في سلاح البحرية التركية”، وفقا للمصادر الأمنية الليبية.
ويتردد على مكتب الضابط تاركان في قاعدة معيتيقة بين حين وآخر قادة ميليشيات محسوبة على حكومة الوفاق، إلا أنهم قادة لا يحبون بعضهم بعضا، وبينهم خلافات تصل إلى الاشتباكات المسلحة بين عناصرهم في قلب العاصمة، لهذا لم يكن تاركان يستقبل مثل هؤلاء القادة إلا فرادى وبمواعيد مسبقة.
ويشير ضابط الأمن الليبي قائلا “في عملية صرمان وصبراتة، لم يوجِّه تاركان القوات الميليشياوية للتصدي للجيش بشكل مباشر، كما يحدث في الحروب العسكرية، لكنه وجهها إلى هاتين المدينتين الهادئتين لأسباب أخرى، وهو يعلم أن مدينة مصراتة، على بعد 200 كيلومتر شرق العاصمة، تريد أن تخفّف من الضغط الواقع عليها من جراء اقترب الجيش الوطني منها من جبهة سرت، لهذا دخلت بقوة في الهجوم على صرمان وصبراتة”.
تعاقد السراج على شراء 21 طائرة مسيرة جديدة وأسلحة أخرى من تركيا قبل أسبوعين، وفقا لمصادر قريبة من المجلس الرئاسي الليبي، إلا أن معظم هذه الأسلحة بما فيها الطائرات المسيرة يتم إنزالها وتسليمها لميليشيات في مصراتة.
هذا بالطبع يثير حنق السراج ويجعله متشككا في النوايا التركية خاصة وقد خصصت مصراتة 10 طائرات مسيرة في الهجوم على صرمان وصبراتة، وهي تسعى بذلك لكسب ود ميليشيات الزاوية.
تحمل اثنتان من أخطر المجموعات المسلحة والمتطرفة اسما واحدا هو “الفاروق”. وتوجد المجموعتان في كل من مصراتة والزاوية. واليوم مصراتة لديها حساباتها الخاصة، ولم يعد يعنيها موضوع حرب الجيش في طرابلس كثيرا، بقدر ما يعنيها خطر تقدم الجيش على جبهتها الشرقية في سرت.
ووجدت في مخاوف الزاوية من الجيش فرصة لتنفيذ عملية في غرب العاصمة تخفف بها الضغط على قواتها على جبهة سرت، وتقول للزاوية “أنا بجوارك في المحنة”.
وأدرك تاركان مبكرا رغبة ميليشيات مثل “الفاروق” بفرعيها في اقتحام سجون صرمان وصبراتة لإخراج عناصر إرهابية شديدة الخطورة منها، من بينهم حوالي 150 إرهابيا كانوا في سجون صرمان، ومن بين هؤلاء العشرات من جماعة “أنصار بيت المقدس” المصرية.
كما أن سجون صبراتة كان فيها ما لا يقل عن 100 من الإرهابيين، بعضهم من التابعين لجماعة الغرابلي، وهذه الجماعة يقودها قائد ميليشياوي من صبراتة، كان هاربا في مصراتة، وله علاقات قوية مع مجموعات “الفاروق” الإرهابية، وينفذ تعليمات الأتراك في ما يخص تحريك المرتزقة القادمين من تركيا، والإرهابيين المحليين في طرابلس.
يتردد على مكتب الضابط تاركان في قاعدة معيتيقة بين حين وآخر قادة ميليشيات محسوبة على حكومة الوفاق، إلا أنهم قادة لا يحبون بعضهم بعضا
لعبت جماعة الغرابلي دورا مهما في اقتحام مدينته التي سبق وأن طرده سكانها منها لرفضهم نشاطه الموالي للإرهابيين ولمهربي الأسلحة والوقود. ويشير مصدر عسكري ليبي في مدينة مصراتة، بقوله إن الضابط تاركان وجد أيضا استعدادا من جانب عناصر مسلحة مما يعرف بـ”سرايا الدفاع عن بنغازي”، المصنفة كتنظيم إرهابي، لإشراكها في الهجوم.
وبحسب إفادة هذا المصدر، كان يقبع في سجون مدينتي صرمان وصبراتة، بضعة عشرات من “سرايا الدفاع عن بغازي”، وهم مقاتلون فروا من شرق ليبيا عام 2017، وتمركزوا بين مصراتة وطرابلس. وجرى استخدامهم على يد الأتراك والمجلس الرئاسي وميليشيات أخرى لإرباك تقدم الجيش في طرابلس.
وقع عشرات من رجال الشرطة خاصة في المباحث الجنائية في مدينتي صرمان وصبراتة ضحية موجة من الانتقام من جانب الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية التي دفعت بها تركيا إلى هاتين المدينتين.
يتوجب على الجيش الوطني التقاط أنفاسه من هذه الصدمة حتى يستأنف جهوده لإنهاء وجود الكتائب المسلحة والمرتزقة الأجانب ومستشاريهم الأتراك من عموم ليبيا.
العرب