تعيش روسيا آخر أيام وصولها إلى النفط الرخيص. ومع تقلص الاحتياطيات، سيضطر منتجو الطاقة في نهاية المطاف إلى تحويل أعمالهم إلى مناطق ذات تكلفة أعلى.
ومن المرجح أن يتزامن هذا مع تباطؤ النمو العالمي في الطلب على الوقود الأحفوري، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل الطلب إلى ذروته في سنة 2040 أو قبل ذلك، مع التحول إلى الطاقة النظيفة. ورغم ذلك، لن تقتصر هذه المصاعب على صناعة النفط، حيث يخلّف الإنفاق الحكومي الضرر في جميع أنحاء المجتمع الروسي.
ولطالما مثلّت احتياطيات النفط التي يسهل الوصول إليها في روسيا حجر زاوية في اقتصادها. لكن هذه الحقول أصبحت مستنزفة، مما خلق حاجة إلى الاستثمار في مصادر غير مستغلة. لن يكون هذا التحوّل سهلا أو رخيصا، حيث أدت عوامل مختلفة إلى جعل القطاع النفطي ضعيفا أمام ضربة ارتفاع التكاليف.
حقول مستنزفة
تسلط دراسة نشرها مركز ستراتفور الأميركي للأبحاث الأمنية والإستراتيجية الضوء على هذا التحدي الذي سيؤثر حتما على اقتصاد روسيا ومستقبلها بشكل عام، لافتة إلى أن مفتاح الحفاظ على موقع روسيا في سوق الطاقة يكمن في تأمين التكلفة اللازمة لتطوير حقول جديدة. وسيعتمد ذلك على قدرة موسكو على تأمين موطئ قدمها في سوق الصين المتعطشة للنفط. وقد لا تجد روسيا خيارا آخر سوى قبول اقتراب أيام العصر الذهبي لنفطها من نهايته.
مشاكل الوصول إلى الاحتياطيات
في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعادت الحقول التقليدية في غرب سيبيريا تنشيط الاقتصاد الروسي، حيث أنتجت كمية هائلة من النفط منخفض التكلفة في وقت تزايد فيه الطلب العالمي بسرعة. ولكن، بعد مرور 15 عاما، بدأت موارد هذه الحقول تنخفض. والحقول الجديدة قادرة على تعويض هذا الانخفاض، ولكن تطوير هذه المناطق يتطلب أموالا أكثر. وستصل السوق في نهاية المطاف إلى مرحلة انخفاض الإنتاج في ثلاثينات القرن الحالي.
للحفاظ على الإمدادات، سيضطر منتجو النفط الروس إلى البحث عن طرق جديدة للإنتاج “غير التقليدي” في السنوات القادمة، لتغطية:
• الاحتياطيات التي يصعب الوصول إليها في مناطق بحر قزوين والبحر الأسود، وفي القطب الشمالي الذي قيدت العقوبات مدى التوسع فيه، وحقول شرق سيبيريا. ويتطلب الوصول إلى هذه الاحتياطيات استثمارا كبيرا أو تقديم حوافز ضريبية ضخمة.
• احتياطيات الصخر الزيتي الأكثر انتشارا في روسيا من أي مكان آخر في العالم. وأدى افتقار روسيا إلى الأدوات اللازمة لاستخراج الموارد بكفاءة بسبب العقوبات، وغيرها من العوامل المرتبطة بالصناعة نفسها، إلى الرفع من تكلفة إنتاج في حدود 15 ألف برميل يوميا.
داخليا، لا تعد روسيا متفائلة بجودة هذا التحول الذي سيبعدها عن حقول النفط التقليدية. وفي مسودة استراتيجية الطاقة لسنة 2035، يكمن أفضل سيناريو في بقاء إنتاج النفط كما هو، رغم توقعات بانخفاضه بنسبة تتراوح بين 12 و40 في المئة.
بالإضافة إلى ذلك، حتى لو لم يتغير الإنتاج، سيتغير السعر. حيث تبقى عروض الصخر الزيتي الحالية في روسيا باهظة مقارنة بالصادرات التقليدية (3 أضعاف). وفي حين لن تظل تكاليفه كما هي، ستستمر أسعار النفط الروسي في الارتفاع حيث يصبح إجمالي الإنتاج أكثر اعتمادا على الاستخراج بعيدا عن المراكز السكانية (على سبيل المثال، تعد المسافة بين موسكو ولندن أقل من تلك التي تفصلها عن احتياطيات النفط شرق سيبيريا).
الفشل في تحسين الإنتاج
لا يعتبر قطاع الطاقة الحالي في روسيا مجهزا بما يكفي لتخفيف وطأة ارتفاع التكاليف بسبب عدد من العوامل الرئيسية. وأدت شبكة مصافي النفط الروسية غير الفعّالة وضعف التكامل إلى زيادة الطلب من الأسواق الرئيسية على النفط الخام بدلا من المنتجات المشتقة منه والأكثر ربحية. ولأسباب تتعلق بالبيئة والكفاءة، تفضل بلدان أوروبا تكرير النفط بنفسها.
ومن المرجح أن يجهد تفضيل السوق للخام الروسي بدلا من مشتقاته حقول غرب سيبيريا. ففي السنوات الأخيرة، صدّرت روسيا كميات من النفط الخام على قدم المساواة مع السعودية. وأدت رغبتها في إطالة هذا العرض إلى تسريع الحاجة إلى دخول مناطق يصعب الوصول إليها. وسيؤدي ارتفاع التكاليف إلى تضخيم نقاط الضعف هذه.
كما أدى نقص المؤسسات المالية التي تحظى باحترام عالمي إلى حرمان روسيا من بعض المزايا الاقتصادية المكتسبة من الأسواق الوطنية، مما أدى إلى تفاقم اعتمادها على عقود نفط برنت والنفط المقوم بالدولار.
وحالت العقوبات الدولية دون الوصول الحرّ إلى معدات استخراج النفط المتطورة (تستورد روسيا 99 في المئة من معداتها)، مما قلّص من قدرة موسكو على الاستفادة الكاملة من الاحتياطيات البحرية أو الرواسب الصخرية. وبينما توجد طرق للالتفاف على العقوبات، تعتمد روسيا كثيرا على الدعم الدولي مما سيجعل القيود الغربية تستمر في إعاقة قدرة روسيا على الاستفادة الكاملة من مواردها المتبقية.
ورخّص المنتجون الكبار بالفعل 95.7 في المئة من احتياطيات البلاد المؤكدة، و88 في المئة من احتياطياتها المقدّرة. ومع ذلك، أصبحت الصناعة الخاصة الروسية أكثر اعتمادا على السوق في السنوات الأخيرة، مع توسيع الشركات لعملياتها خارج البلاد. وأظهر عمالقة الطاقة المحليون، مثل لوك أويل، درجة عالية من القدرة على تحمل المخاطر للتعامل مع المشاريع الكبرى في العراق، في حين وجهت روسنفت إنتباهها إلى جنوب شرق آسيا. ومع ذلك، يحد الهيكل غير التنافسي بين المنتجين الروس من الأعمال اللازمة لتحسين طرق الاستخراج الجديدة. فعلى سبيل المثال، بنيت الطفرة الصخرية في الولايات المتحدة على ظهور المنتجين الصغار الذين حسنوا العملية بعد سنوات من التجارب. لكنْ، لم يشهد النفط الرخيص في روسيا مثل هذا الضغط الذي يؤدّي إلى الابتكار. وعلى عكس نظرائهم الأميركيين، يفتقر صغار المنتجين الروس إلى حرية القيام بالتجربة.
تحويل الوصول إلى أسواق التصدير
يخلق الانخفاض طويل المدى في معدل نمو الطلب على الوقود مستقبلا معقدا للصادرات الروسية. وقد تصبح موسكو غير قادرة على العثور على وجهة لإمدادات النفط متزايدة التكلفة. وتعتمد أوروبا حاليا على روسيا في 30 في المئة من صادراتها النفطية و40 في المئة من إجمالي صادراتها من الغاز الطبيعي، وهو وضع لن يستمر. ففي حين طورت شركات الطاقة الأوروبية ومقدمو الخدمات الروس علاقات متينة على مر السنين، لا ترقى العلاقات السياسية إلى مستوى العلاقات التجارية حيث لا تظهر الصراعات الدبلوماسية بين موسكو وحكومات الاتحاد الأوروبي علامات على التراجع. لكن الاعتماد المتبادل بين أوروبا وروسيا سيحافظ على هذا التعاون القاري في المستقبل المنظور.
أما على المدى الطويل، فسيعتمد مفتاح حفاظ روسيا على موقع قوي في سوق الطاقة وتطوير حقولها باهظة الثمن في شرق سيبيريا على نجاحها في آسيا وتأمينها لعلاقات طاقية متينة مع الصين.
تؤمن روسيا حاليا 15 في المئة من النفط الذي تستهلكه الصين، وستستمر هذه النسبة في الارتفاع حيث تتخلص الصين من طاقة الفحم ببطء. ويشير هذا النمو في الطلب من قبل أكبر مستورد للطاقة في العالم إلى وجود حل لتغطية بعض الخسائر في السوق الأوروبية.
مع ذلك، لا تخلو علاقة موسكو مع بكين من التوترات بسبب مصالح الطرفين المتصادمة في القطب الشمالي وفي آسيا الوسطى. لكن تبقى العلاقات الطاقية بين روسيا والصين حاسمة بالنسبة إلى قوة كل بلد، مما يعني أنهما لن يضحيا بها بسبب خلافات سياسية ثانوية. ويكمن السؤال الحقيقي في ما إذا كانت موسكو قادرة على تنمية علاقاتها الطاقية مع الصين بما يكفي لتعويض أي خسائر في السوق الأوروبية.
خيارات غير مرضية
بالإضافة إلى التحديات المحلية، يخفض مشهد سوق النفط العالمي الحالي آمال مستقبل قطاع النفط الروسي. وقد يدفع ذلك روسيا إلى تعديل تأثير النفط على ميزانيتها. فقد خسر سعر خام برنت في أسواق آسيا أكثر من 12 في المئة من قيمته، وتراجع سعره إلى أقل من 17 دولارا للبرميل.
ولّد القطاع النفطي في روسيا احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية، على الرغم من الانخفاضات الحادة في الطلب والأسعار لانتشار كوفيد – 19.
ولكن، لن يغير تعديل الميزانية الناجح واقع الوضع الاقتصادي في روسيا. فمع وجود احتياطيات نفطية، يتعين على البلاد بناء اقتصاد حديث. وقد تخدم إعادة تشكيل الاقتصاد الروسي بدلا من إطالة اعتماده على الطاقة مسار البلاد الاقتصادي على المدى الطويل. لكن هذه الفكرة ليست جديدةعلى موسكو حيث كان التحديث هدفها لعقود، وجددت جهودها الرامية إلى ذلك على مدى السنوات القليلة الماضية.
أصبح المنتجون أقل خضوعا لسيطرة الدولة مع خطط زيادة الاستثمار العام. ويتبع ذلك نماذج بلدان مثل النرويج وأستراليا وكندا التي بنت اقتصادات مزدهرة بعيدا عن النفط.
وبالمقارنة مع روسيا، تبقى هذه الدول المنتجة للنفط والتي حققت نجاحا أكبر ذات عدد أقل من السكان، مما يعني أن عدد الصناعات اللازمة للتنويع أقل وأن تنفيذ خطط الاستثمار العام ممكنة بكفاءة أكبر.
للحفاظ على الإمدادات سيضطر منتجو النفط الروس إلى البحث عن طرق جديدة للإنتاج “غير التقليدي”
بالإضافة إلى ذلك، تنفق روسيا على القوات العسكرية من ناتجها المحلي الإجمالي أكثر. وقد يصبح تحقيق طموحاتها أثناء دعم عدد كبير من السكان وجيش من الطراز العالمي إنجازا مستحيلا.
ويضع هذا بدوره مستقبل النفط الروسي على طريق مسدود. ومن المحتمل أن يكون الرئيس فلاديمير بوتين على علم بالتكاليف اللازمة للتخلص من الاعتماد الروسي على النفط، لكن “العلاج قد يكون أسوأ من المرض”. إذا أراد بوتين وضع حد لرئاسته عندما تنتهي فترة ولايته الحالية في 2024، فقد يكون أكثر اهتماما بتجنب الآلام قصيرة المدى للتغيير على حساب السنوات القادمة.
لكن، وفي ظل التغييرات الدستورية الجديدة التي اقترحها الكرملين، يزيد احتمال أن يظل بوتين في السلطة عندما يحدث التغيير في نموذج النفط خلال العقد المقبل. ومع حكم ممتد، قد تتوسع شهية بوتين لإجراء تعديلات جذرية على السياسة المالية أو موقف روسيا تجاه الديون الخارجية. لكن، وبغض النظر عن هوية رئيس البلاد، يؤكد خبراء ستراتفور أن العصر الذهبي للنفط الروسي يقترب من نهايته.
العرب