عاد التصعيد الإيراني الأميركي إلى واجهة الأحداث خلال اليومين الأخيرين. بدأ الأمر بإصدار وزارة الخارجية الأميركية تقريرا مفصلا عن محاولات تحرش الإيرانيين بالبوارج الأميركية في مياه الخليج العربي، أعقبه تحذير الرئيس الأميركي دونالد ترامب النظام الإيراني من مغبة استهداف قوات الحرس الثوري للسفن الأميركية.
تلقفت إيران، المختنقة بسبب أزمة كورونا التي قضت على الآلاف من الإيرانيين وتهدد بالمزيد من الضحايا، هذا التحذير لتبعد الأنظار عن الجائحة التي كشفت عورات النظام الصحي في البلاد، حيث ردت بإطلاق أول قمر اصطناعي عسكري. ويأتي ذلك بعد حوالي شهرين على إطلاق إيران قمرا اصطناعيا أخفقت في وضعه في المدار، ضمن برنامج تقول الولايات المتحدة إنه “غطاء لتطوير صواريخ عسكرية”.
رد حاسم
في خضم الجدل الذي أثارته هذه العملية، يطل قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي على التلفزيون الرسمي مهددا بتدمير السفن الحربية الأميركية، في حال نُفذت تهديدات ترامب بـ”تدمير” أي قطعة بحرية إيرانية تقترب من سفن أميركية في الخليج. وقال سلامي “نقول للأميركيين إننا مصممون وجادون للغاية… وإن أي عمل سيتم التعامل معه برد حاسم سيكون فعّالا وسريعا”.
في ذات السياق، استدعت السلطات الإيرانية السفير السويسري في طهران، الذي يمثل المصالح الأميركية لديها، وسلمته رسالة لنقلها للولايات المتحدة مفادها أن إيران ستدافع بقوة عن حقوقها الملاحية في الخليج وستردّ على أيّ تهديدات.
ورجّح مراقبون أن الرسالة الإيرانية تهدف بالأساس إلى التهدئة مع الجانب الأميركي، فسياسات طهران الخارجية ترتكز أساسا على التهديد والوعيد العلني والمهادنة والتفاوض سرّا.
في المقابل، يلفت المراقبون إلى أن هناك وجها آخر للصورة اليوم يختلف عمّا تعوّد عليه المجتمع الدولي من إيران، وهو تقدّم الحرس الثوري الواجهة والدور الذي بات يلعبه اليوم في صناعة القرار. فرغم أن سياسة التصعيد عبر استعراض الأسلحة والتجارب الصاروخية والاستعراضات العسكرية ليست بالأمر المستجد، والسياسة العسكرية عقيدة موجودة أصلا في نظام الحكم في إيران ومتغلّبة على الجانب السياسي، تبدو اليوم هذه السياسة أكثر اندفاعيا وتهورا، حتى أن البعض يصفها بالانتحارية.
صار المراقبون ينظرون للتصعيد الإيراني من زاوية إيران الحرس الثوري، لا إيران التي عرفها العالم قبل أربعة عقود. ويقول فرزين نديمي، هو محلل متخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، “زاد الحرس الثوري سلوكه العدائي في المنطقة المجاورة”، فيما يؤكد مسؤولو استخبارات غربيون ومحللون إيرانيون أن الحرس الثوري يوسع قاعدته ويبسط سيطرته على البلاد.
وفي ذات السياق لفت محللون أميركيون وأوروبيون إلى أن الدور الجديد للحرس الثوري في الحكم يمكن أن يترك إيران بقوة أكبر في أيدي العناصر المعادية للغرب بشدة، والتي تفضّل استخدام العنف في التعامل خصومها. وحذّرت صحيفة واشنطن بوست من أن الحرس الثوري قد يزداد عدوانية في معركة تعتبر مصيرية له، وذلك من جهتين.
تتعلق الجهة الأولى بالوضع داخل إيران، سواء من حيث تداعيات فايروس كورونا، أو من حيث الاحتجاجات الإيرانيين التي زاد الوباء من حدتها.
وفي خضم هذا التعقيد يواجه الحرس الثوري الذي يسيطر على إمبراطورية اقتصادية ضخمة أزمة مالية بعد أن تأثرت الصناعات التي يديرها بالعقوبات. وتحيل هذه الأزمة إلى الجهة الأخرى، حيث يترك نقص المال أثره على علاقات الحرس الثوري بالميليشيات الموالية له في لبنان والعراق وسوريا واليمن. كما كان لتصفية قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني تأثيره على علاقات الحرس الثوري بالميليشيات. وهنا يعتبر المراقبون أن استعراضات القوة الأخيرة هي رسالة أيضا لهذه المجموعات باستمرارية الحرس الثوري وقوته.
أي دور للحكومة
تبدو الحكومة والرئيس الإيراني مهمشين في كل هذه التطورات، وحتى دورهما في مواجهة وباء كورونا استلمه الحرس الثوري، الذي تولى أيضا مهام خارجية. وهذا التهميش كان واضحا خلال السنوات الأخيرة التي استقوى فيها الحرس الثوري وتمددت فيها إيران في العراق واليمن وسوريا.
ويستدل الخبراء في هذا السياق باستقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، السنة الماضية، وذلك عندما نسق الحرس الثوري زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران من دون أن يعرف وزير الخارجية، الأمر الذي يدل على تأثير الحرس في صناعة القرار السياسي الأهم في البلاد. وقد غرّد ظريف مبررا استقالته بأنها “جاءت للدفاع عن مكانة الوزارة ودورها الحيوي في تعزيز الأمن القومي للبلاد”.
ولطالما كانت قوة الحرس الثوري أقوى من سلطة الحكومة، وهي مستمدة من دعم المرشد الأعلى والحلقات المرتبطة به، ومن المحافظين الذين يراهنون اليوم على الحرس الثوري من أجل الحفاظ على “مبادئ” الثورة الإسلامية.
لكن، يلفت مهدي خلجي، الخبير في الشأن الإيراني، إلى أن إيران قد تكون في خضم تغيير تطوّري. فالنموذج القديم قد شكّل نظاما ثوريا إسلاميا تم إدراجه بموجب مبدأ “ولاية الفقيه”، ولكنّ ذلك يمكن أن يفسح المجال أمام قيام نظام أمني وعسكري خاضع إلى حد كبير لسيطرة تحالف من الفصائل الرئيسية في الحرس الثوري من جهة وحلفاء الحرس المحددين حديثا والمستفيدين منه وعملائه من جهة أخرى.
رغم أن النظام الإيراني غير قادر على تصعيد التوتر مع الولايات المتحدة في ظل الضغوط المسلّطة عليه، إلا أن ذلك لا يفرمل الاندفاعة العسكرية للحرس الثوري في وقت تشتد فيه الأزمات في الداخل وبهتت معه مصطلحات من قبيل اقتصاد المقاومة وتحوّلت شعارات المظلومية إلى تمرّد وسياسة انتحارية ينطبق عليها المثل القائل “عليّ وعلى أعدائي”، وضحيتها الأولى هم الإيرانيون.
العرب