“حرب سياسية – اقتصادية” في لبنان ذات أبعاد إقليمية ودولية

“حرب سياسية – اقتصادية” في لبنان ذات أبعاد إقليمية ودولية

ليس في الأفق ما يؤشر إلى الهدوء في لبنان، في ظل الانقسام السياسي الحاد والعجز الرسمي عن إرساء أي حلّ وسط للانقسام العمودي بين جبهة المصارف وعلى رأسها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة ومن خلفه الأحزاب المعارضة، في مقابل “جبهة الممانعة” التي يقودها رسمياً رئيس الحكومة حسان دياب.

تقاذف المسؤولية

ويشير مصدر مصرفي رسمي إلى أنه نتيجة هذه الحرب “السياسية – الاقتصادية” التي تتّخذ أبعاداً إقليمية ودولية، قد يكون الشارع موقع الانفجار بعدما بلغ الوضع المعيشي ذروة تأزّمه والحركات الاحتجاجية لا تأبه لقرار التعبئة العامة ولا لأي قرار حكومي آخر بالتزامن مع انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى مستويات قياسية قد لا تتوقف عند العتبة الحالية المقدرة بـ 4000 ليرة مقابل الدولار. ويضيف المصدر ذاته أن “حزب الله وحلفاءه يريدون تحميل مسؤولية سياسات الحكومات المتعاقبة خلال السنوات العشر الأخيرة، لحاكم مصرف لبنان، في حين أنه كان لديهم حضور واسع في تلك الحكومات لا سيما منذ أربع سنوات مع بداية عهد الرئيس ميشال عون، إذ كان معظم مفاصل السلطة بيدهم”، مفنداً بالأرقام سبب خسارة حوالى 84 مليار دولار، ويقول إن “سلاح حزب الله وانخراطه في الحروب الإقليمية تسبّبا بخسارة حوالى 36 مليار نتيجة لانقطاع السياح العرب عن المجيء إلى لبنان وانخفاض ثقة المغتربين في بلدهم وتراجع الثقة الاستثمارية”، مضيفاً أن “مرحلة تعطيل انتخاب رئيس جمهورية للبنان التي دامت حوالى سنتين ونصف السنة كبّدت الاقتصاد خسائر تُقدر بـ13 مليار دولار، إضافةً إلى سوء الإدارة والهدر والفساد في قطاع الكهرباء والجباية الجمركية والتهرب الضريبي التي تتجاوز قيمتها الـ 33 مليار دولار”.
في المقابل، يردّ معسكر “الممانعة” على تحميله مسؤولية تكبيد الاقتصاد اللبناني خسائر بالمليارات عبر النائب ميشال ضاهر، بالقول إن الهندسات المالية للمصرف المركزي بفائدة 31 في المئة سنوياً هي أكبر فضيحة، وكلفت وحدها مصرف لبنان مبلغ 5.6 مليار دولار، في حين أنه كان يمكن طرحها بفائدة لا تزيد على 7 في المئة لأن كلفة التأمين في السوق الدولية للبنان حينها لم يكن يتجاوز الـ 3.5 في المئة، سائلاً “إذا كانت هذه الهندسات المالية شكلاً من أشكال الرشاوى للطبقة السياسية”.

الدولار إلى 6 آلاف

وبين حرب المعسكرَيْن وتقاذف المسؤوليات، ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بما يتراوح ما بين الـ 30 والـ 50 في المئة، وخسر المواطن من راتبه الشهري أكثر من 62 في المئة من قيمته الشرائية، إذ بات راتب الموظف الحكومي يوازي 400 دولار والأستاذ حوالى 500 دولار والعسكريين 300 دولار، في حين كان الحد الأدنى للرواتب في لبنان يعادل 500 دولار أميركي وهي بالكاد تكفي لتأمين أساسيات المعيشة في هذا البلد.
وتعليقاً على ذلك، يرى وزير الاقتصاد اللبناني السابق الدكتور ناصر السعيدي، أن نسبة التضخم باتت حوالى 40 في المئة وهي مرشحة للارتفاع مع انهيار سعر الصرف، قائلاً إن “أرقام البنك الدولي تشير إلى أن نسبة الفقر تجاوزت الـ 50 في المئة وبلغت نسبة الفقر المدقع 25 في المئة من الشعب اللبناني، وهذه الأرقام تؤشر إلى كارثة إنسانية آتية في الأشهر الثلاث المقبلة وهي تشبه المجاعة التي حصلت بعد الحرب العالمية الأولى”. ويضيف أنه “لا سقف لانهيار الليرة أمام الدولار، الذي يمكن أن يصل سعره بسهولة إلى ما بين 5 و6 آلاف ليرة وارتفاع البطالة لحدود الـ 40 في المئة في ظل غياب خطة اقتصادية فورية”، داعياً الحكومة اللبنانية إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول خطة شاملة تتضمن إعادة هيكلة دين الدولة والمصرف المركزي والقطاع المصرفي وإصلاح المالية العامة من أجل ضخ ما بين 25 إلى 30 مليار دولار في الاقتصاد اللبناني خلال ثلاث سنوات.
ويعتبر السعيدي أنه “على الحكومة اللجوء إلى الصندوق النقد العربي للاستفادة من برنامج تمويل التجارة الخارجية والاستفادة من خدمات استيراد النفط والغذاء والدواء، وعدم التذرّع بوجود شروط سياسية كون المطلوب من المجتمع الدولي إصلاحات اقتصادية ونقدية وخطة إنقاذية شاملة”.

احتياطي المركزي ينفذ

ويشير إلى أن “الأسباب المباشرة التي أوصلت الانهيار إلى هذه المستويات الخطيرة بدأت مع إقفال المصارف لمدة ثلاثة أسابيع في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وفرض القيود على الودائع، ما زاد الطلب على الدولار، بخاصة أن لبنان يستورد حوالى 85 في المئة من سلعه الاستهلاكية والصناعية، ما أدى إلى ثلاثة أسعار لصرف الدولار، الأول رسمي بـ 1520 ليرة والثاني المعتمد في المصارف وفق تعميم حديث للمصرف المركزي بـ 2600 ليرة، وثالث في السوق الموازية، وصل إلى 4000 ليرة مقابل الدولار”. ويوضح أنه “في المقابل، زاد عجز الموازنة الأوضاع سوءاً، فتراجعت مداخيل الضرائب والجمارك بنسبة 60 إلى 70 في المئة. بالتالي، لم تعد الدولة قادرة على تمويل العجز من خلال بيع سندات، فأُلقي الضغط على مصرف لبنان الذي بات عاجزاً عن التدخل في السوق، حيث الاحتياطي بالعملات الأجنبية بالكاد يكفي لتلبية حاجات الغذاء والأدوية والنفط للأشهر المقبلة والمقدرة ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار”.

في المقابل، يرى المحلل الاقتصادي جهاد الحكيِّم أن “هناك غياباً تاماً للتدفقات المالية من الخارج، وفقدان الثقة في النظام المالي اللبناني في ظل تقاذف المسؤوليات بين مكوّنات السلطة والمصارف وحاكم مصرف لبنان، ما يزيد الطين بلّة ويضاعف الضغوط على سعر صرف الليرة الذي بات من دون أي سقوف. ويشير إلى أن “الانخفاض في قيمة الرواتب لا يطال العسكريين والموظفين في القطاع العام فقط، إنما أيضأ القطاع الخاص لا سيما أن كثيرين صُرفوا من وظائفهم، كما هناك مياومون وغيرهم من أصحاب المصالح لا يتقاضون حالياً أي مدخول”. ويضيف أن “السعر الرسمي المعتمد لدى المصرف المركزي بـ بـ1520 ليرة يقتصر فقط على الدواء والمحروقات والقمح، وفي حال لم يعد بالإمكان سداد القروض السابقة بالدولار على سعر الصرف الثابت (1520) فسيتخلّف تقريباً الجميع عن السداد للمصارف، ما سيفاقم خسارتها”. ويعتبر في المقابل أن “انهيار أسعار النفط وتقلّص حجم الاقتصاد بشكل دراماتيكي، سيحدّان من خروج الدولارات، ممّا يساعد مصرف لبنان على دعم هذه المواد لفترة أطول ممّا كان متوقعاً”.

دولة منكوبة

ويلفت الحكيّم إلى التداعيات الاجتماعية الخطيرة الناتجة من الانهيار الاقتصادي “إذ تكمن المشكلة الحقيقية، بعد ما تعرض له الشعب اللبناني من عملية هدر، لم تقتصر على تبديد الإيرادات الضريبية وأموال القروض الدولية، إنما طاولت مدّخراته وودائعه في المصارف، وصولاً إلى سرقة حاضر ومستقبل الشعب وبالأخص الشباب”، معتبراً أنه “لم يعد سهلاً على الشاب اللبناني متابعة دراسته في الخارج، كما أن السفر بات أمراً صعباً، إذ سيتحمل المواطن أكلاف باهظة في مقابل تحويل أمواله إلى العملات الأجنبية بما أن مدخوله بالليرة اللبنانية”. ويضيف أن “لبنان شبه المعزول عن محيطه، بعدما تكشّفت أزمته المالية الاقتصادية غير المسبوقة، أصبحت الشروط التفاوضية لمواطنيه الباحثين عن عمل في الخارج ضعيفة جداً، مثل الدول المنكوبة اقتصادياً، ما ينعكس على كبرياء اللبناني الذي لطالما كان ناجحاً ولامعاً أينما حلّ في العالم”.

طوني بولس

اندبندت عربي