تأهّب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحملة الانتخابية لولاية ثانية في البيت الأبيض. صعد المسرح الانتخابي مجددا، وبيده نتيجة امتحان محاولة العزل الفاشل الذي واجهه في بداية فبراير/شباط الماضي، ليضيفه إلى نجاحاته الاقتصادية، ممثلة في جعل أمريكا المُصدّر الأول للنفط في العالم، وانخفاض معدلات البطالة بشكل قياسي، وخزينة مليئة بمليارات الدولارات، بعمليات بيع الحماية في الخليج وغيره، وخصومة وحروب تجارية مع حلفاء ومنافسين وأعداء من أجل أن تبقى أمريكا أولا.
لكن زائرا غريبا طغى على المشهد الاحتفالي للرئيس، وألقى بوجهه كل أوراق إنجازاته، حتى بات مستقبله السياسي في مهب الريح. كان الزائر عدوا غير منظور، لا تنفع معه الوسائل التقليدية، ويعتمد الخداع والمفاجأة، ومبدأ الإبادة الجماعية. ولأنه كذلك فلا يمكن قياس النجاح معه، وكيف يمكن النجاح في صده، وهو من حوّل كل الاستراتيجيات المستعمله ضده إلى مجرد إجراءات بدائية قديمة ومؤقتة، لا تقوم إلا على التباعد الاجتماعي وغسل اليدين؟ كما عطّل الجيوش والأساطيل، وجعل العالم كله خارج الخدمة.
ويبدو أن الرئيس أحصى خسائره، وبات التخطيط لاستراتيجية الخروج واجبة عليه. وبدلا من وضع إطار عمل لإخراج الولايات المتحدة من أزمة الفيروس القاتل، الذي عصف بها، وبات تعداد المصابين يتجاوز المليون، والوفيات أكثر من خمسين ألفا، فإنه وضع خطة عمل لإخراج نفسه من الأزمة السياسية، التي وضعه فيها الفيروس. ويبدو أنه لم يجد أنسب من الصين لوضعها هدفا أول في خطة إنقاذ مستقبله السياسي. فجأة تزداد نبرة الرئيس حدة حول مسؤولية الصين في تفشي الوباء. يرتفع صوته مهددا بعواقب وخيمة في حالة ثبوت ذلك، لأنها ستكون مسؤولة عن تفويت الفرصة على العالم لاتخاذ الاستعدادات اللازمة، وبالتالي مسؤولة أيضا عن انتشاره، وعن أعداد الوفيات التي نتجت عنه. يسانده بعض أعضاء حزبه أيضا في هذا التوجه. جيم يانكس عضو الكونغرس الجمهوري، يطالب الصين بتعويضات، فيما يتهم السيناتور الجمهوري توم كوتون بكين، بأنها أطلقت الطاعون إلى العالم، ولا بد من تسوية معها بعد الانتهاء من الفيروس. كما يسعد الرئيس أكثر وهو يسمع أصواتا من أستراليا وبريطانيا وفرنسا تنساق معه في النغمة نفسها ضد الصين. فوزيرة الخارجية الاسترالية تطالب بمزيد من الشفافية من بكين، وأن عليها واجبا أخلاقيا بتقديم كل المعلومات إلى العالم. ووزير الخارجية البريطاني يقول، إن العلاقات مع بكين لن تكون كما كانت في السابق. فيما تقول فرنسا إن هنالك ضبابية في الرواية الصينية عن الموضوع، وتطالبها بكشف كل الحقائق.
الهدف الأساسي لترامب، البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، ويعتقد أن العزف على وتر الصين يقرّبه من هذا الحلم
يسير الرئيس الأمريكي في الطريق نفسه، موجها اتهامات واضحة بتواطؤ منظمة الصحة العالمية مع بكين، في تأخير الإعلان عن أن الفيروس وباء، لأنها حتى الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني من العام الحالي، قالت بأن لا عدوى بين الناس حسب قوله. يُجمّد الرئيس الأموال المخصصة لها حتى إشعار آخر، فالولايات المتحدة أكبر مساهم في ميزانية المنظمة بنسبة خمسة عشر في المئة.
في خضم كل هذه الاتهامات، لا أحد يُقدّم لنا دليلا ماديا واحدا يدين الصين، ولا أحد يسأل إذا كانت الدولة قد كذبت وأخفت وتآمرت مع منظمة الصحة العالمية. إذن أين علماء أمريكا والغرب من كل ذلك؟ وأين المخابرات المركزية الأمريكية، ومعها مخابرات الدول الغربية الأخرى المشككة بنوايا الصين؟ دعك من كل ذلك وتتبع مواقف الرئيس الأمريكي منذ بداية الأزمة وحتى اليوم، لتقييم سلوكه حيال الوباء، لتتبين أنه كان يحاول امتطاء نظرية (المؤامرة الصينية) للفوز بولاية ثانية. منذ الأخبار الأولى عن انتشار الوباء، وكعادته استخف الرجل بالموضوع وقال، إنه ليس إلا أنفلونزا لا أكثر، بل كان يرفض الدعوات المطالبة بالحجر الصحي على الولايات الامريكية، مُبيّنا أولوية الاقتصاد على الصحة. وفي منتصف فبراير المنصرم قال ترامب، مشيدا بالقيادة الصينية (إنهم يفعلون كل شيء وأعتقد أن الأرقام ستتحسن تدريجيا). وفي تغريدة له قال إنه يشكر الرئيس الصيني نيابة عن الأمريكيين لجهوده في مكافحة الفيروس. ولو أحصينا عدد المرات التي أثنى بها على جهود الصين في هذه الأزمة، لتبين أنها أكثر من خمس عشرة مرة.
لكن مع وصول العدو الخفي إلى عقر دار ترامب تغيرت نبرته، وزاد تخبطه ما بين بث التطمينات بخصوص الحجر، والقول بأن الإغلاق سوف يُرفع في عيد الفصح، وعدم اكتراثه بالخسائر البشرية التي تسجلها الولايات الامريكية في كل ساعة. حتى وصلنا إلى الايجاز اليومي الذي يقدمه حول الأزمة، لنجده يركز على الصين في إيجاز الاسبوع الماضي قائلا، (لم يتعامل أحد مع الصين بشكل أكثر صعوبة مما تعاملت معه)، وهي رسالة انتخابية واضحة. ولأن الحزب الديمقراطي يعرف جيدا أن الرئيس يحاول استغلال الصين للتنصل عن مسؤوليته في فشل التعامل مع الفيروس، رد بايدن بفيديوهات تُظهر ترامب يُثني على السلوك السياسي والصحي لبكين، قائلا بأن ترامب أشاد بالصين خمس عشرة مرة في الأشهر الماضية، واستسلم لها.
إذن نحن أمام الهدف الأساسي لترامب، وهو البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، وهو يعتقد أن العزف على وتر الصين يقرّبه من هذا الحلم. ولأنه الملهم الروحي لكل اليمين الشعبوي، فإنه يمارس دوره المعتاد في بث الكراهية والعداء للآخر. وعلى الرغم من أن سياسته العدائية للصين أتت أكلها في هذا الظرف الصحي العصيب، حيث يشير أحدث استطلاع أجراه معهد بيو الأمريكي للأبحاث، إلى أن ستة وستين في المئة من المستطلعين، وهم من أنصار الجمهوريين والديمقراطيين، لديهم رأي سلبي تجاه بكين ويعتقدون أن الوباء مؤامرة صينية. لكن على الجانب الآخر أنتج الوباء سياقا جديدا متعارضا كليا مع الأسس التي بني عليها خطاب اليمين الشعبوي. فقد برزت صور مطمئنة عن وجود تضامن وطني وعالمي، شهدته المجتمعات المحلية والمجتمع الدولي أيضا. إن وباء كورونا وباء عالمي ساوى بين الجميع، ولم يستثن أحدا في هذا العالم، والقضاء عليه يتطلب تعاون الكل بما في ذلك الولايات المتحدة والصين. وقد عمل العلماء من كلا الدولتين سابقا في جهود مشتركة لإيجاد لقاحات وعلاجات لاوبئة سارس وإيبولا والإيدز، واليوم يفترض أن يكون الاتجاه بالروحية نفسها لإنقاذ البشرية.
إن أنظار العالم اليوم ليست موجهة نحو نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة، ومن الذي سيفوز فيها، بل الأنظار كلها متجهة إلى من سيُطبّق مبادئه وقيمه، التي يقول إنها إنسانية، على أرض الواقع وينقذ البشرية من هذا العدو الخفي. هذا هو الاختبار الحقيقي أمام الولايات المتحدة، التي تدعي الريادة العالمية، والغرب الذي يتحدث عن حقوق الإنسان، والصين التي تسعى لمساعدة الشعوب الفقيرة.
هل أخفقت الصين علميا في معرفة طبيعة الفيروس وطرق انتقاله، ولم تبلغ العالم عنه؟ هل انتشر كورونا من أحد مختبراتها؟ هل الصين متآمرة أم بريئة؟ هذه كلها أسئلة مطلوب الاجابة عليها.
مثنى عبدالله
القدس العربي