يقول باحث إسرائيلي مختص بالشؤون الفلسطينية إن الضفة الغربية بقيت في العقد الأخير مستقرة رغم الأجواء المأزومة المتواصلة بخلاف كل التوقعات السوداوية. لكنه يحذر من الركون لـ ” السلام الاقتصادي ” ومن تهديد إستراتيجي ـ أمني خطير نابع من أزمة كورونا.
في مقال سابق نشره قبل شهر رأى ميليشطاين وهو جنرال في الاحتياط وعمل في الاستخبارات العسكرية ويشارف على إنهاء الدكتوراة في “الذاكرة الفلسطينية ” أن أزمة كورونا تشكل فرصة لترميم العلاقات بين إسرائيل الفلسطينيين من خلال دعم اقتصادي يخفف التوتر مع السلطة الفلسطينية ويشكّل رافعة للضغط على حماس لحفظ الهدوء.
ويرى ميليشطاين مسؤول قسم الدراسات الفلسطينية في معهد “موشيه ديان” التابع لجامعة تل أبيب، إن مرد ذلك يعود لسببين أولهما مثابرة السلطة الفلسطينية على صيانة سيادتها وإقامتها علاقات مع إسرائيل، وثانيهما حرص إسرائيل على الاستقرار الاقتصادي في الضفة الغربية.
ويعتبر أن أزمة كورونا تشكل تحديا إضافيا يلزم إسرائيل بتوسيع دعمها الاقتصادي للسلطة الفلسطينية قبل أن يتحول انهيار الاقتصاد في الضفة الغربية الى مشكلة استراتيجية وأمنية. ويضيف “منذ عقد ونصف يسود واقع استراتيجي غريب نوعا ما في الضفة في فترة الرئيس عباس التي بدأت في 2005 تمتاز بأجواء أزمة متواصلة وفي صلبها تردي متفاقم في علاقات إسرائيل والفلسطينيين. وفي الخلفية حصلت عدة مسيرات وأحداث : جمود متواصل في المستوى السياسي، ثلاث مواجهات عسكرية قاسية في غزة (“الرصاص المصبوب”، ” عمود الغمام “،” الجرف الصامد”) وتأثير العملية التخريبية في قرية دوما التي قتلت فيها أسرة فلسطينية على أيدي مخربين يهود عام 2015 وانتفاضة السكاكين عام 2015 وأزمة البوابات الإلكترونية في 2017 ونقل السفارة الأمريكية للقدس في 2018 والتحولات الدراماتيكية الأخيرة: نشر ” صفقة القرن ” و”أزمة كورونا”. وعلى خلفية ذلك وفي ضوء تجربة الماضي حذرّت جهات سياسية وأمنية وإعلامية كثيرة في إسرائيل خلال الـ 15 سنة الأخيرة من احتمال تحولات كبيرة في الضفة الغربية من شأنها أن تحدث في ظل الوضع الراهن بدءا من موجة “إرهاب واسع النطاق ” كما في الانتفاضة الثانية، مرورا بانتفاضة شعبية ثالثة كالانتفاضة الأولى، وانتهاء بحل السلطة الفلسطينية لذاتها وإلغاء اتفاق أوسلو.
في المقابل يشير ميليشطاين إلى عدم تحقق هذه التوقعات السوداوية رغم كثرة التوجهات السلبية. ويتساءل الباحث الإسرائيلي كيف يمكن تفسير فشل هذه التوقعات. ويقول إن بحثا معمقا يظهر أن قسما مهما من مصطلحات أساسية تم استخدامها من قبل جهات إسرائيلية لوصف النظام الفلسطيني بأنه متخلف لحد كبير وراء التغييرات التي شهدتها شخصية المجتمع والقيادات في الساحة الفلسطينية وعلاقاتها بالأنظمة الإقليمية والدولية.
ويقدم الباحث الإسرائيلي عدة تفسيرات لحالة الهدوء في الضفة الغربية المحتلة في العقد ونصف العقد الأخيرين. ويفسر خصوصية القيادة الفلسطينية الحالية بالقول: تبدي السلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن بشكل مثابر تحفظا عميقا من استخدام الكفاح المسلح بخلاف سابقه الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي تمسك به حتى يومه الأخير. ويضيف “صحيح أن السلطة الفلسطينية غير مستعدة حقا لتسديد أي ثمن مقابل اتفاق سياسي وأحيانا تبدي رفضا عنيدا لإدارة مفاوضات في الظروف الحالية، لكنها تحرص على صيانة قنوات اتصال مع إسرائيل (خاصة التنسيق الأمني ) والتركّز في تطوير المؤسسات السلطوية والبنى التحتية والنظام الاقتصادي في الضفة الغربية. وإجمالا تمنح السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس أولوية لكل ما هو حاضر هنا والآن وليس لتقييد الذات بشعارات أيديولوجية وتتحاشى الدفع نحو كفاح عنيف ضد إسرائيل من أجل تحقيق أهداف سياسية.
تعلم الدروس من فترة عرفات
ويعتبر ان هذه السلوك العملي والفكري يعكس تعلم الدروس من تجربة القيادة الفلسطينية السابقة : من طريق الرئيس عرفات التي هددت بتدمير المشروع السلطوي الذي تم بناؤه في الضفة الغربية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ومن فقدان السلطة الفلسطينية للسيطرة على قطاع غزة في 2007 واستيلاء حماس عليه. ونتيجة لذلك يخشى قادة السلطة الفلسطينية أنه في ظل صراع عنيف من شأن حماس أن تقوى أو تسيطر على الضفة الغربية.
في معرض مزاعمه لتفسير ما يراها حالة هدوء في الضفة الغربية في الفترة المذكورة يشير ميليشطاين إلى ” الذاكرة الجماعية المصدومة ” مدعيا أن المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية مختلف اليوم بمميزاته الأساسية عما كان في فترة أوسلو وعند اندلاع الانتفاضة الثانية. كما يشير لـ ” كيّ ذاكرة الفلسطينيين الجماعية من العقدين الأخيرين ” ولفهمهم الثمن الوطني الباهظ الذي عليهم أن يسددوه عقب نزاع واسع مع إسرائيل: زعزعة الحكم الذاتي وتدمير واسع كما جرى عقب حملة ” السور الواقي ” في 2002، حالة فوضى بقيادة عصابات مسلحة تفشت داخل الضفة الغربية وكذلك نزاع داخلي بين فتح وحماس رافقته عمليات قتل كثيرة وانشقاق داخلي موجع في السلطة الفلسطينية بين غزة وبين الضفة الغربية.
ومن جملة التفسيرات الأخرى التي يسوقها ميليشطاين: حالة الاغتراب والتوتر المتراكم بين الشعب وبين القيادة في الضفة الغربية ويقول إنه في خلفية ذلك اتهامات موجهة لقيادات السلطة بالفساد المالي والاستئثار بمؤسسات السلطة الوطنية وسط حراسة لمصالحهم ومنع تجدد النظام السياسي والسلطوي الفلسطيني.
ويضيف في هذا السياق ” فعلا هناك أغلبية للحرس القديم في قيادة النظام الفلسطيني فيما بقي تمثيل الأجيال الصاعدة محدودا. وتدلل استطلاعات رأي فلسطينية على حالة الاغتراب هذه وعلى رغبة ثلثي الفلسطينيين بتنحي أبو مازن من منصبه. من هنا يستنتج عجز القيادة الفلسطينية عن تجنيد الجمهور الواسع لصالح خطوات يرعاها أو مطالبتهم بالتضحية من أي نوع كان خدمة لمصالح وطنية”.
كما يشير لما يسميه نزع الأيديولوجية والعزوف عن السياسة نتيجة تعب الفلسطينيين من الشعارات الأيديولوجية (بمعظمها حربجية) التي حركّت المجتمع الفلسطينيين نحو العمل طيلة عقود. ويزعم أن الفلسطينيين في الضفة الغربية يبدون يقظة ويأسا ساخرا حيال الشعارات الثورية القديمة، ويقول إن كثيرين منهم يرون بها انعكاسا لمصالح فئوية ضيقة لجهات سياسية أبعدت الفلسطينيين قولا وفعلا عن تحقيق أهدافهم الوطنية أكثر مما قربتهم نحوها. ويزعم أيضا الباحث الإسرائيلي أن أيام الذكرى الوطنية تعكس جيدا ابتعاد المجتمع الفلسطيني عن الأيديولوجيات السياسية من الماضي، لافتا لانخفاض تعداد المشاركين بها مع الأيام مما يضطر حركة ” فتح ” والسلطة الفلسطينية لتكريس جهد متزايد في تجنيد الجمهور.
في إطار مزاعمه يشير ميليشطاين للمركب الاقتصادي في تفسير حالة الهدوء الفلسطينية، ويقول إن الضفة الغربية تتمتع في العقد الأخير باستقرار اقتصادي بل تشهد تطويرا متدرجا في اقتصادها. ويضيف ” صحيح أن هناك مشاكل أساسية كارتفاع نسبة البطالة خاصة لدى الشباب وانخفاض الدعم الخارجي للسلطة الفلسطينية ولكن توفرت لأغلبية السكان على الأقل حتى أزمة كورونا مصادر العمل والمداخيل الدائمة (خاصة القطاعين العام والخاص في السلطة الفلسطينية وكذلك العاملين في إسرائيل). ويشير لوجود ” ازدهار في الحياة التجارية والثقافية وبحياة الترفي،ه ويقول إن أغلبية المجتمع تتمتع ببنى تحتية مدنية دائمة مما يقود أغلبيتهم للتمحور في حياتهم اليومية. ويوضح ثمن الخسائر المترتبة على نزاع واسع. وطبقا لهذه الرؤية الإسرائيلية يعطي معظم الفلسطينيين خاصة الشباب أهمية لتحقيق ذواتهم وحيازة ثقافة عالية ونجاحات مادية. ويتابع “ويكنى هؤلاء بشكل ساخر بـ “الجيل المصلحجي “، مدعيا أن الكثير من الشباب يئسون من الخيارين الاستراتيجيين اللذين طرحا أمام الفلسطينيين : مفاوضات سياسية أو مقاومة لم تثمرا عن نتائج على المستويين الشخصي والجماعي ولذا فهم يتماثلون مع الخيار الثالث المتمثل بـ ” بدنا نعيش “.
ويعتقد الباحث الإسرائيلي أنه بعد عقد على “الربيع العربي ” فإن أغلبية العرب ومن جملتهم الفلسطينيون يرون أن هذه الأحداث أدت لأضرار قاسية بالأساس ولم تحقق الآمال المرجوة منها المتعلقة ببناء نظام ديمقراطي وازدهار اقتصادي. مدعيا أن الفلسطينيين اليوم يدركون عبر الإعلام ومنتديات التواصل الاجتماعي أن حالتهم السياسية الداخلية، الأمنية ـ الاستراتيجية والاقتصادية ليست ربما مثالية لكنها أفضل من حال مجتمعات عربية أخرى في المنطقة، وهذا برأي الباحث الإسرائيلي عامل كابح للانزلاق لنزاع واسع مع إسرائيل.
سلوك إسرائيل حيال الحلبة الفلسطينية
كما يعتبر الباحث الإسرائيلي أن إسرائيل ورغم الاحتكاك الدبلوماسي المتصاعد مع السلطة الفلسطينية فقد حافظت على علاقاتها الجارية معها في مجالات مختلفة وبالأساس حافظت على التنسيق الأمني، منوها أنهما أدركتا طيلة الفترة المذكورة حيوية المركب الاقتصادي في الاستقرار داخل الضفة الغربية حتى عندما شهدتا أزمات. ويقول إنه على خلفية ذلك شكت جهات فلسطينية من أن إسرائيل نجحت بإنتاج ” احتلال لطيف” ذكي يتيح حياة مريحة نسبيا للفلسطينيين وبذلك خففت احتمالات الانفجار والكفاح المسلح أو الاحتجاجات الشعبية. في المقابل يشير ميليشطاين الى أن المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية لم يتحول لغير مبال أو فقد هويته الوطنية وهو يستطيع أن يتنظم كقوة جماعية في حالات مهمة بعيونه، كما تجلى في احتجاجات المعلمين والأطباء أو احتجاجات على قانون التقاعد، مثلما يرد أيضا على قضايا يرى فيها تهديدا لروايته الجمعية كما فعل عند الكشف عن ” صفقة القرن ” أو عند تهديدات إسرائيلية للحرم القدسي الشريف.
رواج فكرة الدولة الواحدة
ويشير إلى أن استمرار استقرار الحياة الاقتصادية يساهم في حفظ نسيج الحياة في الضفة الغربية على الأقل في المدى القريب، ويحول دون انضمام كثيرين من الفلسطينيين للنشاط الشعبي أو الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وهذا رأي صحيح بعد فترة الرئيس عباس وحدوث ” دراما سياسية ” محتملة في قمة القيادة الفلسطينية.
في المقابل يؤكد الباحث الإسرائيلي أن ” السلام الاقتصادي “( مصطلح سلبي يرى به الفلسطينيون وسيلة تعتمدها إسرائيل لصيانة الاستقرار دون التقدم في القناة السياسية) ليس بديلا لتسوية طويلة الأمد. ويؤكد أن ” السلام الاقتصادي ” متعلق كله بالاستقرار الاقتصادي، وفي حال تزعزع هذا( نتيجة أزمة اقتصادية في إسرائيل تنعكس فورا على الوضع داخل الضفة الغربية) فمن المتوقع أن يتغير سلوك المجتمع الفلسطيني.
ويضيف “هذا الهدوء الحالي منوط بالذاكرة الجماعية المصدومة لدى جزء من المجتمع الفلسطيني منذ سنوات النزاع القاسي مع إسرائيل وجيل الشباب ليس شريكا في هذه ” الذاكرة الرادعة ” ومن شأنهم الشعور بأنهم طلقاء أكثر في التحول مستقبلا نحو الكفاح المسلح ضد إسرائيل وربما يرافقه تحد للسلطة الفلسطينية. من هنا يحذر الباحث الإسرائيليمن أن الهدوء النسبي في الضفة الغربية مغرر ومن شأنه أن يكون مهددا أيض،ا فتحت رعايته يتشكل بالتدريج دمج جغرافي وديمغرافي واقتصادي وبنيوي متصاعد بين الضفة الغربية وبين إسرائيل، مما سيثقل أو يمنع التفريق بين الشعبين مستقبلا. ويضيف ” أكثر من ذلك، لدى قسم كبير من الفلسطينيين خاصة الشباب يلاحظ اليأس العميق من إمكانية تحقيق حلم الدولتين وتفضيل فكرة الدولة الواحدة التي يمكنهم فيها ممارسة حقوقهم المدنية المسلوبة اليوم. هكذا دون تخطيط أو رغبة من قبل الشعبين فمن شأنهما أن يجدا ذاتهم في واقع الدولة الواحدة، وهذا سيناريو من شأنه أن يشكل كابوسا مشتركا أكثر مما هو وصفة لحياة متجانسة “.
ويرى الباحث الإسرائيلي أنه منذ مارس/ آذار 2020 تدلل أزمة كورونا على المزاعم المركزية الواردة أعلاه، ويخلص للقول إنه من جهة واحدة فهي تعكس تبعية اقتصادية- مدنية – بنيوية عميقة لدى السلطة الفلسطينية بإسرائيل ( تلقي مساعدات لمعالجة كورونا ودعم مالي) ومن جهة أخرى تسلط الأزمة الضوء على مركزية المركب الاقتصادي في صيانة الاستقرار في الضفة الغربية. ويتابع ” هذه الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية المتفاقمة اليوم في السلطة الفلسطينية ( تتجلى في اتساع البطالة كما في إسرائيل) تلزم إسرائيل بدعم الاقتصاد الفلسطيني قبل أن يتحول إلى تهديد استراتيجي وأمني رغم انشغالها بمشاكلها الذاتية.
القدس العربي