محلل سياسي ألماني: كورونا عملية تبسيط عظيمة لحياتنا

محلل سياسي ألماني: كورونا عملية تبسيط عظيمة لحياتنا

واشنطن – بعد شهور قليلة فقط من تفشي فايروس كورونا، قد يبدو الاضطراب الذي سببه الوباء في حياتنا وكأنه ليس أكثر من وقفة هائلة- ذات نطاق عالمي غير مسبوق- وهي رغم هذا مؤقتة.

ولكن ماذا إذا استمر الحال هكذا أعواما، كما يتوقع خبراء؟ وماذا إذا لم تحدث عودة إلى الحياة الطبيعية، حتى عندما ينتهي الوباء؟ فقد لا يكون الأمر مجرد فترة توقف أو فاصل، بل عملية إعادة ضبط.

ولكن ضبط أي شيء؟ هكذا يتساءل المحلل السياسي الألماني أندرياس كلوث، وهو يتوقع أن يكون الأمر كله عملية “تبسيط عظيمة”: تبسيط لحياتنا، وأولوياتنا، ولجداول أعمالنا وانتماءاتنا وشؤوننا المالية، وربما حتى للرؤى العالمية، وتبسيط أيضا لمجتمعاتنا، وذلك لأن أحد الآثار الجانبية لجائحة “كوفيد19-” هي فضح التراكم المُعقَّد الواهي على مدار عقود لمجالات الحياة الفردية والسياسية والاقتصادية، على الأقل، في دول الغرب الثري.

وفي إطار السياق الفردي، كانت أعراض التعقيد غير ملحوظة رغم وضوحها. والكلمة التي تصف ذلك هي “الحاجة إلى النظام”. وخلال عهد البراءة الذي انتهي في يناير 2020، كان من السهل للغاية أن يشتري المرء أغراضه، ومن الصعب للغاية عليه ألا يفعل. ولذلك، تراكمت الأغراض بأسرع مما يمكننا ترتيبه، أو تخزينه، أو التخلص منه، وبالتأكيد أسرع مما يمكننا الاستمتاع به.

ويقول كلوث إن برهانه على ذلك يشمل النجاح المذهل الذي حققته شخصية مثل ماري كوندو، وهي رائدة ومستشارة في مجال ترتيب وتنظيم الأغراض، والتي تقدم المساعدة في ترتيب المنزل.

ومن الناحية العملية، تريد كوندو من المرء أن ينظر إلى جميع أغراضه وأن يكرر على نفسه السؤال: “هل هي تجلب السعادة؟”، وعادة ما تأتي الإجابة بالنفي، ليتم التخلص من هذه الأغراض.

وامتدت الحاجة إلى الترتيب والنظام إلى باقي جوانب حياتنا في إطار الطبقة الوسطى حتى عهد حديث. وصار من الصعب علينا أن ندير جداول أعمالنا أو سفرياتنا، سواء كانت داخلية أو إلى الخارج.

ولكننا تقبلنا المتاعب وتحملناها، لأننا كنا أكثر خوفا من أن يفوتنا أي نوع من الفرص، مهنية كانت أو رومانسية أو اجتماعية.

وحدث شئ مماثل في مجتمعات الدول الغنية، فلقد أضفنا مزيدا من التعقيد: أجهزة إدارية (بيروقراطية) جديدة، وتشريعات وتقسيمات للعمل، وثغرات للتهرب الضريبي، وهكذا.

ويرى كلوث الاتحاد الأوروبي مثالا على ذلك، ولكن يمكن القول أيضا إن الولايات المتحدة تقدم مثالا أسوأ على حد قوله. ويظهر ذلك بوضوح في نظام الإدارة الرشيدة المعاصر في الولايات المتحدة، أو في أنظمتها للرعاية الصحية والتعليم والضرائب.

ويقول المحلل الألماني إن هذا التدهور البيزنطي (المعقد) هو في الحقيقة ظاهرة تاريخية متكررة، كما وصفها عالم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) جوزيف تينتر، في كتابه “انهيار المجتمعات المعقدة”، الصادر في عام 1988.

وبحسب تينتر، كان التعقيد والعجز عن التبسيط عنصرين أديا إلى انهيار أكثر من 20 حضارة، من الميسينية والمينوية إلى الحيثية وحضارة المايا، بالإضافة إلى العديد من الأسر الملكية في الصين، والإمبراطورية الرومانية الغربية.

وترى أنه ليس من الضروري أن يكون الانهيار مخيفا كما يبدو. إنها مجرد عملية تبسيط سريعة، ولا إرادية لمجتمع ما.

وأفضت بعض عمليات الانهيار إلى “عصور مظلمة”، والبديل هو تبني عملية تبسيط وتسميتها “ابتكارا”، إذا كان من شأن ذلك أن يجدي نفعا.

وبفضل “كوفيد19-” ربما نكون قد وصلنا إلى هذه النقطة الفارقة. وفي إشارة أولية على حدوث تبسيط سريع، تشهد سلاسل التوريد العالمية تفككا، وفي الغالب يتم إعادة تجميعها من خلال طرق أكثر بساطة بكثير.

وقد يؤدي التبسيط إلى اضطرابات في نظم الرعاية الصحية والرفاهية والنظم الضريبية، حيث إنه يصبح جليا أن هؤلاء الذين يعتمدون كثيرا على المعونات الصحية أو المالية، لا يستطيعون حتى التعامل مع التعقيدات من أجل الحصول عليها.

وفي بعض الدول، ربما تأتي الإصلاحات عبر ثورة شعبية، وأفضل سبيل هو أن يتم ذلك عن قصد وبشكل مدروس.

ومن المثير للقلق، أن كثيرا منا قد بدأوا التبسيط بالفعل. فإذا ما كنا في السابق نخاف أن يفوتنا أمر ما، هناك القليل الذي يمكن أن يفوتنا الآن، وهذا أفضل عذر للبقاء في المنزل وسط الأسرة، فالعلاقات غير الجادة تتضاءل، في حين تنتعش العلاقات الحقيقية، وتزدهر، خلال “الساعات السعيدة” عبر تطبيق “زووم”، لعقد الاجتماعات الصوتية والمرئية عبر الانترنت.

وقد انتهى عهد السفر الخارجي الذي يتسم بالتبذير, ولذلك لا يشعر أحد بالأسى إزاء “البقاء في المنزل”. وفي ما يخص كل شئ آخر، بداية من النظام الغذائي إلى الطب والموضة، تصبح “البساطة هي الموضة الجديدة”.

وما يدركه الكثيرون في خضم هذا الوباء هو أننا نحتاج إلى أقل بكثير مما كنا نعتقد أننا نريده قبل أشهر قليلة مضت. هل هذا يجلب السعادة؟ وربما نتذكر “كوفيد19-” يوما ما بكل امتنان.

العرب