تستغلُّ دولة الاحتلال الإسرائيلي مرحلة ضعف عربية، ووجود إدارة أميركية متماهية مع نزعة إسرائيل الاستيطانية العُنصرية، لتمضي في مشاريعها إلى أبعد مدى ممكن، وعلى سلّم أولوياتها في هذه المرحلة إحكامُ سيطرتها على الضفة الغربية والقدس، وفرْض سيادتها الاحتلالية على الأغوار، وشمالي البحر الميت، بالإضافة إلى المستوطنات والبؤر الاستيطانية، لتقضم ما يزيد عن 40% من الأراضي المحتلة عام 1967، ولتفرض واقعًا يجعل من المستحيل قيام دولة فلسطينية، بحرمانها من التواصُل الجغرافي؛ إذ ما يتبقَّى هو أشبه بأرخبيل من الجُزر المتناثرة، وبحرمانها من أيّ سيادة في حدّها الأساسي، فهذا الوجود الفلسطيني حينها لا يملك أيّ مقومات بقاء حقيقية، وذاتيّة. وبالطبع، خطوة تحمل هذا القدر من الخطورة والمصادرة أول ما يستدعي البحث فيها هو ركائز تحققها، ومسوِّغات وجودها.
اعتادت إسرائيل على إشهار دعاوى أقلّ استفزازا للعالم، ولقانونه الدولي والإنساني، وللشرعية الدولية المتمثلة في قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفي المواثيق الدولية التي لا تجيز احتلال أراضي الغير، وتقويض حقِّ الشعوب في تقرير مصيرها. من تلك الدعاوى حاجاتها الطبيعية إلى مزيد من الوحدات السكنية؛ لتلبية النمو الطبيعي للمستوطنين، أو حاجتها لمصادرة أراضٍ لأسباب أمنية، وكانت لا تجعل في مقدِّمة تلك الدعاوى مرتكزاتِها الدينية التوراتية؛ عن حقهم في أرض فلسطين، أرض الميعاد، فهو خطاب ليس له محلٌّ في السياق القانوني الدولي، وفي المواضعات الدولية الحديثة.
ولكن إسرائيل، وقد أصبحت عاجزة عن كبح شهيَّتها الاستعمارية، بالاكتفاء بوتيرة أبطأ في
“تبرر إسرائيل سياسات قضم الضفة الغربية بحاجاتها الطبيعية إلى مزيد من الوحدات السكنية؛ لتلبية النمو الطبيعي للمستوطنين”التوسُّع الاحتلالي والاستيطاني التهويدي، وقد وجدت، وفق تصوُّراتها طبعًا، ظرفًا سانحًا، دوليًّا، وإقليميًّا، وعربيًّا، وفلسطينيًّا، لم تشأ أن تفوّت هذه اللحظة التاريخية، وإن كانت لم تزد، أو تكتسب أيّ تعزيزات قانونية تخرجها عن دولة احتلال، وتنأى بفعلتها المزمعة، وهي الضمّ، عن وصمها بالاحتلال، أيضًا.
فمن الناحية الدولية شهد النظام الدولي حالةً أشبه بالغياب، وفي آخر تمظهرات الحضور الدولي كانت “اللجنة الرباعية الدولية”، والتي أُنشئت، عام 2002، باقتراح أوروبي، وهي المكوّنة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة، ولم تنجح تلك الرباعية في تحقيق تسوية سياسية، وليس هذا فقط، بل إن تحقُّقها العملي كان محلَّ شكوك؛ لافتقاد التجانُس بين أعضائها، ولتفاوت التأثير لصالح الولايات المتحدة؛ فآلت الأمور إلى انفراد الأخيرة الفعلي بالجهود الساعية إلى التسوية بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال.
ثم دخلنا مرحلتنا الراهنة بانشغالات أكبر للاتحاد الأوروبي وروسيا، بأولويات أكثر مساسا بمصالحهما الحيوية، أو تهديدا لتلك المصالح، فزاد الاستفراد الأميركي بملف الصراع، وزاد الطين بلّة، وصولُ رئيس أميركي، هو دونالد ترامب، لم يتشبّع بمنطلقات “المؤسسة” السياسية في الولايات المتحدة، وكان بنزعته الانعزالية والاستعلائية، أكثر تحلُّلا من متطلَّبات الدولة
“المرتكزات الدينية التوراتية عن “حقهم في أرض فلسطين” خطاب ليس له محلٌّ في السياق القانوني الدولي”القائدة عالميًّا، أو الدولة الراعية لعملية السلام، عربيًّا وفلسطينيًّا.
وكان هذا التحوُّل الدولي، بالإضافة إلى التحوُّلات الأكثر يمينية وتطرُّفًا في إسرائيل، مضافًا إليها الحالة العربية المنهكة، بالنزاعات، والاضطرابات الناجمة عن تأجيل طويل لاستحقاقات التغيير، كان ذلك كله ما أغرى دولة الاحتلال بالاستخفاف بتلك بالضم وفرض السيادة، وهي خطوة أحادية خطيرة، سواء في افتقادها السَّند القانوني، أو في التداعيات المتوقعة على حياة الفلسطينيين، وآمالهم الوطنية والسياسية.
وإسرائيل بهذا لا تستند إلا على وعود ترامب، وإدارته، علمًا أن في الكونغرس الأميركي، سيما من الديمقراطيين، معارضة لهذه الخطوة، ولذلك أعلن مستشار جو بايدن لشؤون السياسة الخارجية، أنتوني بلنكن، أنه لو فاز بايدن المرشَّح عن الحزب الديمقراطي بالرئاسة، فإنه سيعارض ضمَّ إسرائيل لمستوطنات إسرائيلية ومناطق من الضفة الغربية، وأنه مع حلِّ الدولتين.
أما الموقف الأوروبي فهو أكثر إجماعًا على رفض الضمّ، وأشدّ تحذيرا من خطورته، ومن جديد مؤشِّرات ذلك ما قدّمه سفراء عشر دول أوروبية لدى تل أبيب، من احتجاج مشترك
حذّر المقرِّر الخاص المَعني بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة مايكل لينك، من أنّ خطط إسرائيل الجديدة ستسبب “سلسلة من العواقب الوخيمة لحقوق الإنسان”لإسرائيل، بشأن نواياها بتنفيذ خطَّة لضمِّ أجزاء من أراض فلسطينية لسيادتها. وقالت قناة 13 الإسرائيلية إن الدول المحتجَّة، (إضافة إلى بريطانيا: ألمانيا، وفرنسا، وأيرلندا، وهولندا، وإيطاليا، وإسبانيا، والسويد، وبلجيكا، والدنمارك وفنلندا) حذّرت في رسالتها، من أن “الضمَّ سيضرُّ بمكانة إسرائيل الدولية وسيقوِّض الاستقرار الإقليمي”.
وقد حذّر المقرِّر الخاص المَعني بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ 1967، مايكل لينك، من أنّ خطط الحكومة الإسرائيلية الجديدة المتمثلة في ضمّ أجزاء مهمة من الضفة الغربية المحتلة ستسبب “سلسلة من العواقب الوخيمة لحقوق الإنسان”. ولم تكن روسيا بعيدة عن هذه المواقف المعلنة، إذ أكَّدت معارضتها خطط الكيان الإسرائيلي الخاصة بضمّ أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، مشدِّدةً على أن هذا الإجراء قد يقوِّض تسوية الصراع على أساس حلِّ الدولتين، وخاصة إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ماذا يضيف الضمُّ لدولة الاحتلال؟ ربما لا شيء سوى تأكيد احتلالها، وإطلاق يدها في سرقة الأرض والموارد. لا شيء سوى تفعيل قوّتها العسكرية، من دون أيّ سند، أو حتى شبهة قانونية؛ الأمر الذي يعيد النظر والجدل إلى أساس وجودها، وهي القائمة، دوليًّا، بموجب القرارات الدولية نفسها، التي ترفض الآن، الاحتكام إليها، في انفلاتٍ بعيدٍ إلى روايتها الذاتية، وانغلاقها الديني، والعنصري.
أسامة عثمان
العربي الجديد