تجتهد الدبلوماسية الروسية للعب دور «الوسيط» الساعي إلى حل سياسي تقبله جميع الأطراف للحرب في سوريا التي أوقعت وفق الأمم المتحدة ما يقارب الـ240 ألف قتيل وشردت 13 مليون إنسان ودمرت البنية التحتية وفتحت البلاد أمام المنظمات الإرهابية وتمددت إلى العراق، وهي تهدد لبنان والأردن وتركيا وبلدان الخليج.
خلال الأسابيع الأخيرة، راحت الدبلوماسية الروسية تتحرك في كل الاتجاهات: الوزير لافروف كان في الدوحة لاجتماع ثلاثي مع نظيريه الأميركي والسعودي بينما نائبه بوغدانوف زار طهران والتقى، إلى جانب المسؤولين الإيرانيين، وزير الخارجية السوري. والثلاثاء، استضافت موسكو وزير الخارجية السعودي بعد أن كانت قد استضافت نهاية يونيو (حزيران) الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع.. والدبلوماسية الروسية لا تنسى تركيا التي تتواتر الزيارات إليها بشكل غير منقطع، كما لا تنسى المعارضة السورية التي يصل بعضها إلى موسكو في الساعات القادمة من أجل جولات جديدة من المشاورات. والدبلوماسية الروسية تتشاور باستمرار مع واشنطن وأكثر من اجتماع ضم لافروف وكيري خصص للملف السوري ولنقاط التقارب بين العاصمتين التي يمكن تلخيصها بما يلي: الأولوية لمحاربة الإرهاب و«داعش» في سوريا «والعراق»، وبعد ذلك سنرى. وباختصار، يمكن رسم إطار التحرك الروسي بالقول إن موسكو تتواصل مع كل الأطراف الفاعلة محليا (باستثناء التنظيمات الإرهابية) وإقليميا ودوليا لغرض طرح نفسها وسيطا مقبولا والإمساك بعدد كبير من الأوراق للعب بها. هذا واضح، ولكن الأمر الأقل وضوحا يتمثل بالسؤال التالي: ما الخطة الروسية ولأي غرض؟
إذا كان هدف موسكو حقيقة العمل على ترجمة خطة الرئيس بوتين التي طرحها في شهر يونيو الماضي والداعية إلى إقامة تحالف دولي ضد الإرهاب يضم دولا إقليمية (تركيا، السعودية، الأردن، سوريا) وخارجية بالتوازي مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية منذ شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن هذه الخطة لن تكلل بالنجاح بسبب رفض أطراف فاعلة السير فيها وأولها المملكة العربية السعودية. والسبب أن موسكو تريد ضم النظام السوري إلى المنظومة التي تسعى إلى إقامتها بحجة أنه «يقاتل داعش». لذا، فمن الواضح أن المساعي السورية لن تذهب بعيدا، وهذا ما أشار إليه الوزير الجبير صراحة عقب لقائه لافروف في موسكو يوم الثلاثاء الماضي.
تسعى موسكو للترويج لعدد من الأفكار والمبادئ «السهلة» التي تريد أن تكون أساسا لإعادة تشكيل المواقف، بل لإعادة اصطفاف الأطراف المعنية وفق الرؤية الروسية. والأسانيد التي يرتكز إليها الوزير لافروف أصبحت واضحة ومعروفة: لا أحد يريد أن يرى «داعش» في دمشق، سقوط الأسد يعني وصول «داعش»، الأسد لا يهدد أي بلد بعكس «داعش» التي تهدد الجميع بمن فيهم روسيا…
ليس من شك أن بلدان المنطقة تستشعر خطر الإرهاب وغالبيتها منضوية في التحالف الدولي الذي يقصف مواقع «داعش» في العراق وسوريا منذ أغسطس (آب) الماضي. وبعض ما تركز عليه الدبلوماسية الروسية لا يجافي الصواب، لكن عيب منطق موسكو أن الخلاصات التي تصل إليها موضع جدل، إذ كيف يمكن أن تتصور أنها قادرة على تسويق فكرة «تعويم» الأسد عبر بوابة الإرهاب من غير أن توفر للأطراف التي تخاصمه أو تقاتله ضمانات حول ابتعاده عن السلطة بعد مرحلة انتقالية محددة يتم خلالها تشكيل هيئة حكم تؤول إليها السلطة بموجب مبادئ جنيف للحل السياسي؟ وعندما يثار هذا الجانب من المسألة فإن الدبلوماسية الروسية تختار أسهل الأجوبة بحيث تردد ومن غير اقتناع أنه يعود للشعب السوري أن يحدد المرحلة الانتقالية ومصير النظام. لكن تبين أن الشعب السوري ليس من يمسك بزمام مصيره وأن النظام ليس في وارد التخلي عن السلطة ولا التعاطي مع المعارضة لأن كل معارضة -بحسب مفهوم الوزير المعلم- «إرهاب» والنظام «لا يتعاطى مع الإرهابيين».
الحقيقة أن كثيرين من الذين يتعاطون بالشأن السوري «حائرون» إزاء ما تريد موسكو الوصول إليه. فبعض التسريبات يفيد بأن ما يهم الكرملين ليس شخص الأسد، بل بقاء الدولة السورية ومؤسساتها والمحافظة على المصالح الروسية في شرق البحر الأبيض المتوسط وإعادة فرض موسكو لاعبا أساسيا في المنطقة لا يمكن تجاهل مواقفه أو مصالحه وحماية روسيا والجمهوريات المحيطة بها من خطر الإرهاب والتشدد الإسلامي. ومنذ أيام، قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن بوتين «لم يعد متمسكا بالأسد»، بينما نقل عن لافروف قوله لوزراء غربيين أن بلاده «ليست متزوجة الأسد»، ما يعني أنها مستعدة للنظر في مصيره ولكن «شرط توفر البديل». ولإعطاء هذه الفرضية المصداقية اللازمة يتعين البحث عنه في التحولات الميدانية، إذ لم يعد الأسد قادرا على القتال في كل الجبهات ولا على وقف تراجع مواقعه المستمر، ناهيك بإعادة الإمساك بسوريا. وبالمقابل، فإن المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده الجبير ولافروف في موسكو بين أن روسيا ما زالت متمسكة بالأسد وأن تفسيرها لبيان جنيف الصادر في نهاية يونيو عام 2012 لم يتغير، وهي ترى وتؤكد أنه لم يشر إلى تنحي الأسد وأن مصير النظام رهن بإرادة السوريين.
بعد نحو أربعة أعوام ونصف من الحرب في سوريا، تعود عقدة «مصير الأسد» لتجهض التصورات والحلول المطروحة. بالطبع، حصلت متغيرات خلال شهر يوليو (تموز) وما انقضى من الشهر الحالي من شأنها المساعدة على إخراج الوضع من عنق الزجاجة. وأبرز التحولات الاتفاق النووي الإيراني – الدولي وتغير الموقف التركي وخطط إردوغان في سوريا وخصوصا الوعي الروسي – الإيراني أن مسار الأمور في سوريا «ليس لصالح الأسد»، الأمر الذي أشار إليه الرئيس أوباما شخصيا، معتبرا أن «نافذة» قد فتحت للعثور على حل سياسي في سوريا يقول الجميع إنهم يبحثون عنه.
في ظل هذه المعطيات، تبدو المسؤولية الروسية كبيرة للغاية وتبدو موسكو ممسكة بالمفتاح الأول بسبب رعايتها الدولية للنظام السوري والمظلة الدبلوماسية – السياسية التي توفرها له في مجلس الأمن ومساعيها لإخراجه من الزاوية الضيقة عبر إعادة تأهيله، بيد أن الوصول إلى نتائج جدية يفترض أن تحسم موسكو مواقفها وأن تطرح خطة يمكن التوافق عليها لجهة السير بمرحلة انتقالية وفق منطوق بيان جنيف على أن يخرج الرئيس السوري من الصورة في مرحلة من المراحل مع توفير ضمانات صلبة لذلك.
لكن تبقى في الأفق علامات استفهام كثيرة، أولها يتناول موقف طهران ومدى تناغمها مع الطروحات الروسية واستعدادها للتعاون، وخصوصا الثمن الذي تطلبه. والحال أن وزير الخارجية الفرنسي الذي زار طهران مؤخرا عاد بانطباع أن لا تغيرات في الأفق الإيراني على الأمد القصير. لذا تبدو الأسابيع والشهور القادمة حاسمة لجهة المسار الذي ستسلكه الأزمة السورية، إما باتجاه مزيد من المعارك بحثا عن حسم عسكري لا يبدو قريب المنال إن لم يكن مستحيلا إذا بقيت المواقف على حالها، وإما السير نحو تسوية سياسية لا يظهر أنها أصبحت اليوم على بعد رمية حجر.
ميشال أبو نجم
صحيفة الشرق الأوسط