حتى لا تبتعد طريق الحرير عن المنطقة العربية

حتى لا تبتعد طريق الحرير عن المنطقة العربية

Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2015-02-06 12:45:01Z |  |

لعل أهم النتائج التي أسفرت عنها اجتماعات وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) خلال الأسبوع الماضي، هي التأكيد على تمسك الصين بسياسة ضبط النفس وتجنب الوقوع في صراع استنزافي مع الولايات المتحدة. لقد حضر جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي الاجتماع حاملاً معه سلسلة من الاتهامات الاستفزازية ضد بكين، منها التحذير من تحويل بحر الصين الجنوبي إلى منطقة عسكرية. كان كيري مصراً على الاصطياد في مياه البحر العكرة وعلى تأجيج التوتر في العلاقات بين بكين وبعض دول (آسيان). ولكن الصين تمكنت من اجتياز هذا المطب بعد أن أعلن وزير خارجيتها استعداد بلاده لتوقيع مسودة سلوك تلتزم بها دول بحر الصين بقصد وضع حد للتوتر فيه. ولم يكن هذا الإعلان ليضير الصين أو ليقلل من مكانتها المحفوظة بين الأمم والدول. كما أن الإعلان لم يكن لينال من مقام الصين لسهولة استخدامه كدليل على تمسك بكين، على مدى التاريخ، بسياسة التعاون الإقليمي وحسن الجوار.
وفي الفترة نفسها التي قدمت فيها الصين موقفها من مسودة السلوك كعنوان لسياستها المسالمة، فإنها كانت تقدم دليلاً آخر على أن تمسكها بهذه السياسة يتلخص في مشروع «طريق الحرير» الذي يحتل مرتبة عالية من اهتمام الزعماء الصينيين ومتابعتهم. وسوف يبرز هذا الاهتمام في الاجتماع المهم القريب الذي سيعقده الحزب الشيوعي الصيني من أجل بحث وإقرار الخطة الخمسية للتنمية. في الوقت نفسه، وحتى لا يكون الطريق مجرد شعار جذاب، فإن القيادة الصينية تسعى إلى استحداث الآليات التنفيذية له وإلى توفير الإمكانات المالية الكافية لتحقيقه.
في هذا السياق، أسست بكين «صندوق طريق الحرير» الذي رصدت له أربعين مليار دولار، فضلاً عن تأسيس «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية» الذي رصدت له خمسين ملياراً من الدولارات.
وإلى جانب التحضيرات الداخلية لبدء بناء الطريق، فإن هذا المشروع مدرج على جدول أعمال اللقاءات التي يعقدها القادة الصينيون مع الزعماء والحكومات الأجنبية، وهو موضوع من المواضيع الرئيسية التي تستأثر باهتمام قادة الصين في خطبهم وجولاتهم الدولية. وقد أسفر هذا الجهد عن ترحيب بعض الدول المعنية بطريق الحرير. هذا ما فعلته باكستان بعد الإعلان عن المشروع، وكما أكدته خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني تشي جين بينغ إلى باكستان خلال شهر إبريل/نيسان الفائت، التي أسفرت عن توقيع 30 اتفاقية مع إسلام آباد لتنفيذ جزء كبير من الطريق.
ولئن كان سير الطريق سهلاً في بعض الدول، مثل باكستان، الحليف القديم للصين، فإن ردود فعل البعض الآخر من الدول لم تكن «حريرية». فحكومة مودي التي تمثل اليمين الديني المتعصب في الهند عمدت إلى إصدار «رؤية استراتيجية» مشتركة مع إدارة أوباما رداً على طريق الحرير. ورغم العلاقات الطيبة بين ماليزيا والصين، إلا أن وزير الدفاع في الحكومة الماليزية انتقد المشروع الصيني بصورة غير مباشرة، إذ قال إنه كان من الأفضل أن يكون حصيلة مبادرة إقليمية وليس صينية. وأعرب الرئيس الإندونيسي ويدودو عن بعض التحفظات على المبادرة الصينية. لقد تراجع مودي عن تحفظاته بعد قيامه بزيارة بكين حيث أعلن عن مشاريع صينية-هندية مشتركة تتجاوز الرؤية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، كما تراجع ويدودو والمسؤولون الماليزيون عن تحفظاتهم خاصة أن الصين لم تكف عن تأكيد حرصها على مصالح الجيران والأصدقاء الآسيويين.
تلك كانت ردود فعل جيران الصين على إحياء «طريق الحرير»، فكيف كانت ردود فعل الدول العربية على هذا المشروع؟ كيف ردت الدول العربية على مشروع يرمي إلى إحياء وتجديد مناخ دولي ازدهرت خلاله المنطقة العربية أيّما ازدهار في كل حقل من حقول العلم والمعرفة والفكر والسياسة والتجارة والعمران؟ كيف أجابت الدول العربية على الرئيس الصيني الذي شدد على تعاون العرب والصين في إحياء طريق الحرير؟
باستثناء الإجابة المصرية الوديّة تجاه هذا المشروع وبعض الردود المبعثرة، فإن التجاوب العربي مع هذا المشروع الضخم لبث محدوداً ومتحفظاً. البعض قد يعتبر أن الدول العربية الغارقة في مصائب الاقتتال والحروب الأهلية ومكافحة شتى الموجات الإرهابية الشيطانية، تفتقر إلى الجو المناسب للنظر في مشاريع كبرى من هذا النوع، ومن إبداء النظر فيها وللانخراط كطرف رئيسي فيها.
وقد يقول البعض الآخر، إن المشروع هو مهم إلى درجة أن قبوله والتجاوب مع مبادراته قد يؤديان، موضوعياً، إلى انتقال الدول العربية، أو معظمها على الأقل، من حال التحالف مع دول الغرب، إلى حال التوافق والتحالف مع الصين ومع قوى التغيير في المجتمع الدولي. وهنا يخشى الذين يبدون هذه الملاحظة من تكرار تجارب عربية فاشلة في التحالفات الدولية. فقد اعتبر البعض من العرب أن التعاون مع أوروبا الوسطى قد يساعد العرب على تحقيق آمالهم وطموحاتهم، ولكن هذه الفكرة لم تكن في محلها، خاصة أن دول أوروبا الوسطى خسرت الحرب/الحروب التي خاضتها ضد دول أوروبا الغربية. وذهب البعض من الدول العربية إلى التعاون والتحالف مع دول أوروبا الشرقية بأمل تحقيق الآمال والأماني الوطنية، ولكن النتائج لم تختلف كثيراً عن الحالة الأولى.
جواباً على هذه التحفظات على مبدأ التعاطي بانفتاح على مشروع طريق الحرير، فإنه من المهم أن نتعلم من تجارب الماضي، ولكن هذه التجارب تدلنا على أن الإبحار في السياسة الدولية يقتضي أن تسعى الدول العربية إلى الاحتفاظ بأعلى درجة ممكنة من الاستقلالية في هذا المضمار، وألا تفوت فرصة من الفرص المشروعة من أجل تحسين أوضاعها. إن مد يد الصداقة إلى الصين والتعاون معاً في مشروع “طريق الحرير” لا يخل بمبدأ الاستقلالية في السياسة الدولية، وقد يسهم في تمكين العرب من وضع حد لحال الفوضى المأساوية التي نعيشها. فضلاً عن هذا وذاك، فإن “طريق الحرير”، كما نعلم، لم تكن طريقاً واحدة بل كثيرة، وأكثر ما نخشاه هو أن يتم ترسيم هذه الطريق بحيث تبتعد عن المنطقة العربية، بحيث نحرم من مزاياها، أي المزايا التي أمّنت للعرب دوراً مشرقاً في هيكل الحضارة الإنسانية.

د.رغيد الصلح

صحيفة الخليج