أفادت مصادر متقاطعة عن إخلاء الحرس الثوري الإيراني بعض قواعده في سوريا للمرة الأولى منذ العام 2011. أتى ذلك بعد تصعيد إسرائيلي، بداية هذا الأسبوع، تمثّل بقصف مستودعات ومقار للميليشيات في محافظتي حلب ودير الزور.
وخلافا لما جرى في العامين 2018 و2019 من ردود إيرانية مقننة، يبدو أن طهران فضّلت هذه المرة الانكفاء التدريجي ليس من أجل إعادة الانتشار أو تحضير لعمل عسكري، بل على الأرجح من أجل توجيه رسالة للأطراف المعنية واستكشاف مواقف موسكو وواشنطن من هذه الخطوة. ومما لا شكّ فيه أن هذا التطور يندرج في سياق “لعبة” ثلاثية الأبعاد بين روسيا وتركيا وإيران.
وبما أن التنسيق المتبادل بين روسيا وإيران لا يرقى إلى مصاف التحالف، ويشوبه خلافات حول مستقبل سوريا وحكمها، تنظر طهران بعين الريبة للترتيبات الروسية – التركية في الشمال السوري وتراقب إمكانيات التقاطع الأميركي معها. وهكذا يمكن للانسحاب الجزئي الإيراني أن يكون مدخلا لإبقاء نفوذ طهران بأشكال متعددة خاصة خلال حقبة الشهور القادمة التي سترسم صورة مبدئية وحاسمة للتركيبة السورية الجديدة.
مقابل “اتفاق أستانة” والأدوار الغربية والعربية، لم يكن الدور الإسرائيلي خفيا على الساحة السورية، وبرز منذ الشهور الأولى للحراك السوري تحفّظ إسرائيلي اتجاه تغيير حاسم في دمشق من دون اتضاح صورة البديل الملائم.
لكن إسرائيل انتقلت من الدور المراقب والمؤثر على صناع القرار من الغربيين والروس إلى الانخراط في “اللعبة الكبرى” حول سوريا عبر التفرغ لاستهداف الوجود الإيراني بدءا من العام 2013، والتركيز على منع نقل السلاح النوعي لصالح حزب الله.
بيد أن تمركز الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية، منع سقوط النظام وكان يتم التغاضي عنه إسرائيليا ما دام الاستنزاف مستمرا والدمار يشمل الحجر والبشر في بلد شكل شعبه رأس حربة في رفض إسرائيل في الإقليم. لكن اتضح مع الوقت فشل الرهان الإسرائيلي على التقاطع الكبير مع الرئيس فلاديمير بوتين (الذي أنقذ النظام في العام 2015 بعد عدم قدرة المحور الإيراني لوحده على الصمود) في تحجيم وإنهاء الوجود الإيراني العسكري، خاصة أن انتزاع إيران لقاعدة ثانية على الحدود مع إسرائيل بعد قاعدتها في الجنوب اللبناني، يمكن أن يشكل تهديدا نسبيا أو مكسبا إيرانيا في التنافس على النفوذ في الإقليم.
من هنا أتت الغارات الجوية والصاروخية الإسرائيلية المتتالية على الأراضي السوري تحت عنوان المصالح الأمنية مع دعم أميركي وتفهم روسي. وبالرغم من بعض المتاعب في التنسيق الروسي – الإسرائيلي صمد تفاهم الطرفين على عدم استهداف النظام والاكتفاء بضرب المحور الإيراني.
وفي هذا الإطار يمكن أن نضيف ما أدلى به أخيرا الموفد الأميركي والمسؤول عن الملف السوري جيمس جيفري الذي حدد أن “سياسة بلاده تتمحور حول خروج كل القوات الأجنبية من سوريا بما فيها القوات الأميركية مستثنيا روسيا، عازيا ذلك إلى أن روسيا موجودة في سوريا قبل العام 2011 أي تاريخ انطلاق الانتفاضة السورية على عكس كل القوى الأخرى”، فهل يخفي ذلك إمكانية التفاهم الدولي من فوق لإنهاء وجود القوى الإقليمية في سوريا بدءا بإيران ووصولا إلى تركيا.
بالطبع، يتطلب هكذا اتفاق لتصفية آثار الحروب السورية انتظار ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وتهدئة بين واشنطن وموسكو تتيح نسج ترتيب منحصر بسوريا أو على نطاق أوسع.
في السنة العاشرة من المحنة السورية، يبرز تعفن الوضع على أكثر من صعيد اقتصادي – اجتماعي وسياسي. وأتى الخلل والسجال في موضوع رامي مخلوف على خلفية انتقادات ساقتها وسائل إعلام روسية ودوائر مقربة من الكرملين لنهج الرئيس السوري وأسلوب حكمه، وكل ذلك يشي بخلط الأوراق تمهيدا للترتيب المنتظر حول الحكم السوري.
وفي غمرة هذه المتغيرات، أكد مسؤولون عسكريون إسرائيليون، في 5 مايو الحالي، أن “القوات الإيرانية بدأت الانسحاب من سوريا وإغلاق قواعدها العسكرية وسط ارتفاع في وتيرة القصف الإسرائيلي على مواقعها”. وأكدت مصادر سورية مستقلة أن الحرس الثوري الإيراني قام بإخلاء عدد قليل من القواعد العسكرية التي كانت تحت سيطرته. ولوحظ كذلك انخفاض في عدد الميليشيات العاملة تحت الإمرة الإيرانية في سوريا رغم أن هذا الانخفاض ربما يعود لتطور الوضع الميداني وليس بسبب الضربات الإسرائيلية.
وبعد هذا “التباهي” بإنجازات، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي أن “بلاده ستواصل عملياتها في سوريا حتى رحيل القوات الإيرانية منها”. لكن مصادر عسكرية تتابع الوضع السوري تقلل من المكاسب الإسرائيلية المفترضة، لأن الحرس الثوري والميليشيات التابعة له سرعان ما كانت تقوم بترميم كل بنية تحتية مدمرة واستبدالها.
وفي لعبة المطاردة يبدو الحصاد الإسرائيلي متباينا خاصة مع تغلغل إيران واستحواذها على ميليشيات متنوعة تمولها وتساندها، وحسب آخر التقارير نسجت إيران في الأشهر الأخيرة شبكات من التجنيد والتشيع في جنوب سوريا وشرقها أتاحت تأطير أكثر من عشرة آلاف شخص، وفي مناطق من الشمال السوري في حلب وقربها تتم إعادة انتشار نحو الأرياف لضمان استمرار الوجود الإيراني والحليف على تخوم إدلب وعلى الحدود مع لبنان والعراق وصولا إلى دمشق.
ويمكن القول إنه في مقابل قيام إسرائيل بضرب إيران في سوريا، وعدم استطاعة إيران الرد عليها مباشرة، بل غالبا ما يكون الرد بالوكالة أي أنها تحارب بـ”حزب الله” وبميليشيات شيعية عراقية وأخرى غير عربية. وهذا يعقّد المهمة الإسرائيلية لأن البعض يشبه ترابط المنظومة السورية الحاكمة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمثابة “التوأم السيامي” مما يعني تشابك ملف الحل السياسي الداخلي والوجود العسكري الخارجي.
ومما لا شك فيه أن الانهيار الاقتصادي والمالي في سوريا تبعا للانهيار المالي في لبنان وتعثر الحكم السوري الذي تعمق مع شح الدعم الإيراني المالي، وهذا سيلقي تبعات إضافية على روسيا والتي تواجه بدورها تحديات اقتصادية زادت في زمن كورونا. وكل هذا يدفع للقول إن الانسحاب الجزئي الإيراني الذي اعتبرته واشنطن ناقصا ولم تسوّقه موسكو، لا يحدث تغييرا ملموسا بل ربما يمثل إرهاصات لإعادة تشكيل المشهد السوري المضطرب.
د.خطار أبو دياب
صحبفة العرب