في كانون الثاني/يناير الماضي، أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب تأكيد رغبته في حمل حلف شمال الأطلسي (الناتو) على الانخراط على نحوٍ أكبر في الشرق الأوسط. وبعد النداءات السابقة التي وجّهتها الإدارات الأميركية من أجل تعاون أوثق بين الناتو وشركائه في الشرق الأوسط، جاء كلام ترامب بمثابة تذكير بأن الولايات المتحدة ليست مزمعة على أن تتحمل بمفردها كلفة المساعدات الأمنية للمنطقة. يقيم الناتو منذ وقت طويل علاقات عسكرية واسعة مع قوات مسلّحة محلية، ولكن نظراً إلى النتائج المحدودة لهذا الانخراط، لا شك في أن توقعات واشنطن بإجراء تقسيم جديد للمهام سيكون مصيرها الفشل.
لقد أدّت الأجندات السياسية المتنافسة للدول الأعضاء في الناتو إلى عرقلة تطبيق أي شراكة طموحة في المنطقة. لطالما دفعت الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الجنوبية مثل إيطاليا وإسبانيا باتجاه زيادة تدخل حلف الناتو خارج حدود البحر المتوسط، في حين اعتبرت دول أخرى مثل فرنسا أن المنظمة هي كيان عسكري من دون خبرة دبلوماسية للتعامل مع الأزمات التي يواجهها الشرق الأوسط. إضافةً إلى ذلك، بذلت تركيا برئاسة أردوغان جهوداً دؤوبة لتعطيل أنشطة الناتو غير المنسجمة مع استراتيجيتها في المنطقة، مثل تعاونه مع إسرائيل أو مصر.
بغض النظر عن العقبات السياسية، استمرت العلاقات العسكرية بين الحلف العابر للأطلسي والقوات المسلحة المحلية، وتعمّقت في العقود الثلاثة الأخيرة. ومن خلال المبادرات التدريبية المتعددة، قدّم الناتو مساهمة كبيرة في الإصلاحات العسكرية في الشرق الأوسط على مستوى الدبلوماسية الدفاعية، وتحديداً من خلال التطبيع الاجتماعي للقوات المسلحة المحلية على المستوى الدولي. ولكن نظراً إلى القيود السياسية في بروكسل، ينبغي على الولايات المتحدة أن تدوزن توقعاتها على نحوٍ أفضل. لقد كانت مساهمة الناتو في الفعالية التشغيلية للجيوش العربية ولا تزال متواضعة، ومن الواضح أنها لا تساهم في التحديث الذي يشكّل حاجة ماسّة لهذه الجيوش.
تبقى الأداتان الأساسيتان لسياسات الناتو في المنطقة الحوار المتوسطي الذي جرى الإعلان عنه في عام 1994 مع إسرائيل وستة بلدان عربية (موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن)، ومبادرة اسطنبول للتعاون التي وُضِعت اللمسات الأخيرة عليها في عام 2004 وتضم أربعة أنظمة ملكية خليجية (الإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين). وقد جرت لاحقاً مراجعة هذه الشراكات لتشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة بدءاً من المشاورات الدبلوماسية وصولاً إلى الأنشطة التدريبية. وفي عام 2016، بدأ الناتو بتطبيق مقاربة جديدة في التعاطي مع شراكاته الإقليمية تُعرَف بـ”بث الاستقرار”. يُشدد هذا المفهوم على الحاجة إلى إرساء الاستقرار في المناطق المعنية مثل الشرق الأوسط، من خلال مساعدة الشركاء الإقليميين على تعزيز إمكاناتهم العسكرية. ومنذ ذلك الوقت، باتت هذه المقاربة المكوِّن الأساسي لانخراط الناتو في الشرق الأوسط.
يُشكّل التعليم والتدريب العسكريان حجر الزاوية في السياسة الإقليمية لحلف الناتو. يشارك الشركاء الشرق أوسطيون في العديد من البرامج بما في ذلك التدريبات العسكرية، وحضور مقررات عملانية في كلية الناتو في ألمانيا ومقررات استراتيجية في كلية الناتو الدفاعية في إيطاليا. تُقدّم هذه الكلية مقرراً عن التعاون الإقليمي شارك فيه أكثر من 600 ضابط من الناتو والجيوش الشرق أوسطية حتى تاريخه.
في عام 2017، دشّن الناتو والكويت المركز الإقليمي التابع لمبادرة اسطنبول للتعاون، وقد وصفه الناتو بأنه بمثابة “منزل جديد للحلف في الخليج”. يجمع هذا المركز الذي تستضيفه الحكومة الكويتية، ضباطاً من الناتو ودول الخليج من خلال مقررات تعليمية وتدريبية تركّز على الشؤون الأمنية مثل الأمن البحري وأمن البنى التحتية للطاقة، أو الأمن السبراني.١ في الأعوام الثلاثة الأخيرة، قدّم المركز 40 برنامجاً قصير الأمد حضرها نحو 100 مشارك من بلدان مجلس التعاون الخليجي. وفي عام 2018، استأنف الناتو بعثته التدريبية لدى القوات المسلحة العراقية. أُطلِقت البعثة بدايةً في عام 2004 بعد الاجتياح الأميركي، واستندت بقوة إلى الدعم السياسي والموارد العسكرية الأميركية. وقد جرى تدريب نحو 15000 ضابط عراقي قبل تفكيك البرنامج إثر الانسحاب الأميركي بقرار من الرئيس أوباما في عام 2011، بيد أن الناتو استمر في تقديم التدريب للضباط العراقيين من حين لآخر، لا سيما في مجال إدارة الأزمات.٢
لقد تكللت برامج الناتو التدريبية والتعليمية في الشرق الأوسط بالنجاح بصورة أساسية في مجال الدبلوماسية الدفاعية من خلال إنشاء شبكات دولية جديدة من القادة العسكريين. وفي العقدين المنصرمين، ولّدت هذه الأنشطة آليات وممارسات روتينية يشارك فيها ضباط من الطرفَين بصورة منتظمة. وقد أدّى الناتو دور “عميل للتطبيع الاجتماعي” مثلما وصفت ألكسندرا غيسيو انخراط الناتو في أوروبا الشرقية في التسعينيات. وقد سمح التقارب الاجتماعي والروابط غير النظامية التي بُنيت من خلال هذه البرامج للطرفَين بإجراء مشاورات وثيقة بين المسؤولين الدفاعيين. وفقاً لصنّاع القرار في الناتو، أدّى ذلك دوراً حاسماً في التنسيق بين قوات الناتو والقوات القطرية والإماراتية عندما انضمت هذه القوات إلى العملية في ليبيا في عام 2011. ٣
إضافةً إلى ذلك، فيما تسعى المنظمات الإقليمية في الشرق الأوسط مثل جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي إلى بناء هيكليات عسكرية مشتركة، تساعد برامج الناتو الضباط العرب على استيعاب طبيعة العمل الدفاعي المتعدد الأطراف على نحوٍ أفضل. ويتيح لهم ذلك تعزيز التعاون التشغيلي بينهم. كذلك قدّم الناتو نموذجاً يُحتذى لمجلس التعاون الخليجي، فقد شكّلت لجنة الناتو العسكرية وكلية الناتو الدفاعية مرجعيتَين استخدمهما مجلس التعاون الخليجي لتصميم قيادته المشتركة والكلية الدفاعية.٤
أبعد من هذه الإنجازات، نجاح عملية الناتو العسكرية في الشرق الأوسط محكومٌ بنطاقها المحدود. تستند بعثة الناتو في العراق إلى نحو 500 مستشار، وحضور الحلف في الكويت أكثر تواضعاً: فقد عُيِّن ممثلان للحلف من مقره في بروكسل للعمل في المركز الإقليمي التابع لمبادرة اسطنبول للتعاون، والجزء الأكبر من الأنشطة التدريبية تتولاه “فرق جوّالة” مرسَلة من مراكز القيادة المختلفة في أوروبا والولايات المتحدة.
لقد أعلن الناتو والحكومة العراقية في شباط/فبراير الماضي عن إرسال مزيد من الجنود للمشاركة في البعثة التدريبية، لكن تفشّي جائحة “كوفيد 19” يعرقل تنفيذ هذا القرار. فالوباء يتسبب بعرقلة عمليات الانتشار العسكري في أوروبا وكذلك في العراق حيث علّق الجيش مختلف أنشطته التدريبية. في الوقت الراهن، سحبت معظم دول الناتو قواتها وأعادت نشرها في الكويت بانتظار انتهاء الأزمة الصحية. وبما أنه يتعذّر توقّع مدّة استمرار الوباء، ليس واضحاً متى يمكن للناتو استئناف البعثة، وما إذا كان مخطط توسيعها سيبقى قائماً.
وعلى صعيد أكثر إثارة للقلق، تفتقر المساعدة التي يقدّمها الناتو للشرق الأوسط إلى تحديد واضح للأهداف. فقد وصفها مسؤول أمني كويتي رفيع المستوى في عام 2012 بأنها “شراكة من دون قضية”.٥ البيروقراطية متجذرة بقوة في الناتو بحيث إن المبادرات التدريبية تُطلَق عادةً بعد اتخاذ قرار رئيسي في بروكسل، ولكن متابعة السياسات محدودة إن لم تكن غائبة. لم يتمكّن مسؤولون في الناتو، خلال أحاديث معهم، من الإشارة إلى إجراءات تقييم محددة، وبدا أن مجرد وجود الأنشطة كافٍ بالنسبة إليهم لاعتباره مؤشراً عن النجاح. وفي حالة المركز في الكويت، أقرّ ممثلو الناتو بأن هناك نقاشاً متواصلاً بشأن وضع معايير للتقييم.٦ ولكن تحديد مؤشرات الأداء مع الشركاء المحليين قد يشكّل تحدياً لهم في إدارتهم للقوات المسلحة، وتبعاً لذلك، قد تتخلى عنه بروكسل باعتباره حساساً جداً على المستوى السياسي. ويبدو واضحاً أن الناتو لا يبذل أي جهود لإعداد استراتيجية شاملة تُحدّد النتائج المرجوّة وتراقب عن كثب فعالية الأنشطة التدريبية في الشرق الأوسط.
نتيجةً لذلك، يجب على الحكومة الأميركية أن تدوزن أهدافها المتعلقة بدور الحلف الأطلسي في الشرق الأوسط على ضوء الواقع الحقيقي لانخراط الناتو في المنطقة. نظراً إلى محدوديات التعاون العسكري الذي يقدّمه الناتو – رغم النجاحات الصغيرة التي حققها – ومحدوديات مساعداته الأمنية، على الحلف ألا يتوقع ممارسة تأثير حاسم في الفعالية العسكرية لشركائه الشرق أوسطيين. ولكن الناتو قادر على إحداث فارق في مسائل أخرى (وقد أحدث هذا الفارق فعلاً)، من خلال تعزيز دبلوماسية الدفاع المتعددة الأطراف، ومساعدة الجيوش العربية على تحديد الممارسات الفضلى للتخطيط المشترك وبرامج التدريب والتعليم المشتركة. يستطيع حلف شمال الأطلسي، من خلال التركيز على التعاون المتعدد الأطراف، تعزيز الهندسة الأمنية للشرق الأوسط – وهو هدفٌ يستحق العناء في المنطقة.
جان لو سمعان أستاذ مساعد في مادة الدراسات الاستراتيجية في كلية الدفاع الوطني في دولة الإمارات. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبّر عن آراء كلية الدفاع الوطني بدولة الإمارات، ولا مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية، ولا أي حكومة من الحكومات.
ملاحظات
١. مراسلة بواسطة البريد الإلكتروني مع مستشار أكاديمي لدى الناتو، 29 آذار/مارس 2020.
٢. شارك الكاتب في زيارة تدريبية للناتو إلى العراق، كانون الثاني/يناير 2014.
٣. مقابلة هاتفية مع ضابط عسكري في حلف الناتو، آذار/مارس 2020.
٤. مقابلات هاتفية مع ضباط خليجيين ومسؤولين في الناتو، آذار/مارس 2020.
٥. مقابلة في مدينة الكويت، نيسان/أبريل 2012.
٦. مراسلة بواسطة البريد الإلكتروني مع مستشار أكاديمي لدى الناتو، 29 آذار/مارس 2020.
كارنيجي