ترغب الولايات المتحدة في تحويل مرحلة ما بعد الحرب ضد فيروس كورونا إلى حرب باردة مع الصين لمنعها من تزعم العالم وخاصة اقتصاديا، وهي نقطة أساسية في أجندة واشنطن بكل مؤسساتها وإن اختلفت طريقة تطبيقها وتوقيتها. وترغب أيضا في جر عدد من دول العالم إلى محاصرة الصين، لكنها تجد معارضة كبيرة وعلى رأسها دول أوروبا باستثناء بريطانيا.
ويشن البيت الأبيض بزعامة الرئيس دونالد ترامب رفقة وزارة الخارجية بقيادة مايك بومبيو، حملة قوية ضد الصين بتوجيه اتهامات شتى، تتمحور أساسا حول تحميل الصين المسؤولية المعنوية والمادية في التسبب في هذا الوباء العالمي من خلال عدم مراقبة مختبر إجراء الأبحاث على الفيروسات في معهد مدينة ووهان في إقليم هوبي، مكان ظهور الفيروس. ويركز البيت الأبيض اتهاماته على الحزب الشيوعي الصيني في محاولة إعطاء طابع إيديولوجي للنزاع، بين العالم الليبرالي الحر والشيوعية.
والحرب التي تشنها الولايات المتحدة على الصين ليست وليدة اليوم ولكنها تعود إلى سنوات وخاصة مع بداية ولاية دونالد ترامب الرئاسية سنة 2017. فقد بنى حملته الانتخابية على الحد من تأثير الصين في العالم وعدم تعويضها لواشنطن. ولهذا الهدف، فرض رسومات قوية على الصادرات الصينية نحو السوق الأمريكية، ومنع تواجد شركة هواوي في الأراضي الأمريكية.
لكن الحملة ضد الصين ارتفعت بشكل ملفت خلال الأسابيع الأخيرة على خلفية كورونا فيروس. وتؤكد الولايات المتحدة استغلال الصين للوباء العالمي في محاولة منها بالخروج في وضع قوي للتمهيد لزعامة العالم. وبدأت واشنطن تنبه الدول إلى ضرورة تقليص العلاقات الاقتصادية مع الصين. ومن ضمن الأمثلة الخاصة بالعالم العربي، صرح ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى خلال هذا الأسبوع إنه “على هذه الدول (الخليجية) أن تفكر في قيمة شراكتها مع الولايات المتحدة”. وتتضاعف الضغوطات على الأوروبيين الشريك التاريخي لبناء استراتيجية مشتركة تحاصر ما تعتبره التمدد الصيني في الغرب ثم العالم.
عدم مسايرة البيت الأبيض
وتنخرط أوروبا في المخطط الأمريكي ضد الصين بنوع من الاحتشام ودون حماس يذكر. فقد طالب بعض الرؤساء ومنهم الفرنسي إيمانويل ماكرون بدوره الشهر الماضي بتوضيحات من بكين بشأن ظهور الفيروس الذي يهدد اقتصاديات أوروبا، ولاحقا تخلى عن هذا الخطاب. وتشير المعطيات إلى عدم مغامرة أوروبا كثيرا بالدخول في حرب اقتصادية كبيرة ضد الصين قد تؤدي إلى توترات غير مرتقبة. وتعد ألمانيا السد الحقيقي ضد استراتيجية الولايات المتحدة ضد الصين، فقد أخذت مسافة من تصريحات ترامب ضد بكين.
وعلى رأس الأسباب التي تدفع إلى الحرص من الانخراط الكبير في الحرب الباردة ضد الصين هو وعي الأوروبيين بغلبة دواعي انتخابية وراء رفع إيقاع ترامب الحرب الحالية ضد الصين. ولم يبقى سوى أشهر قليلة على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وحظوظ ترامب ضعيفة بسبب تراجع الاقتصاد وارتفاع البطالة إلى مستويات لم تسجلها البلاد منذ سنة 1929 بسبب الفيروس الذي يعتبره “فيروسا صينيا”. وتعتقد الدول الأوروبية الكبرى أن انخراطها المباشر والقوي في حملة ترامب يعني مباشرة دعمه في الانتخابات ضد الحزب الديمقراطي، بينما هي تتمنى رحيله.
في الوقت ذاته، لم تعد أوروبا تعتقد في مخطط صيني بنشر الفيروس أو نتيجة إهمال من طرف مختبر ووهان، فقد بدأت هذه الرواية تتراجع لاسيما بعدما أصدرت الاستخبارات الأمريكية تقريرا مفصلا معتمدا على باحثين كبار ينفي التهمة عن الصين. وتثق أوروبا في الاستخبارات الأمريكية أكثر من ثقتها في البيت الأبيض، إذ لم يعتمد ترامب على المؤسسات الرسمية لإصدار الاتهامات ضد الصين. وتذهب الاستخبارات الأوروبية إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها نظيرتها الأمريكية.
ويلعب رجال الأعمال الأوروبيون دورا رئيسيا في دفع حكومات أوروبا عدم مسايرة البيت الأبيض في مخططاته ضد بكين. فقد أصيب الأوروبيون بخيبة أمل عندما قرر الرئيس ترامب تجميد مفاوضات التبادل التجاري الحر بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي الاتفاقية التي كانت ستعني الكثير للاقتصاد الغربي. وتعتقد الشركات الأوروبية في أهمية طريق الحرير الصيني بعدما تحول إلى واقع يهيكل التجارة العالمية وسيكون أهم شريان للتجارة والاستثمارات الدولية خلال السنوات والعقود المقبلة، لاسيما بعدما نجحت الصين في بناء أكبر طبقة متوسطة في العالم بل وربما في التاريخ.
وترتاب أوروبا من سياسة ترامب والتيار الفكري الذي بدأ يرسيه في الإدارة الأمريكية وهو التخلي عن العمل المشترك والعودة إلى القرارات والسياسية الانفرادية. فقد تدهورت العلاقات بين أعضاء الحلف الغربي منذ مجيء ترامب إلى الرئاسة، ولكنه تيار بدأ منذ بداية القرن الماضي عندما قررت الدولة العميقة في الولايات المتحدة أن مستقبل التجارة العالمية سيكون في المحيط الهادي وليس الأطلسي. ومن ضمن أسوأ ما ساهم فيه ترامب هو نفور الرأي العام الأوروبي من سياسة واشنطن وفي المقابل تعزيز رؤيتها الإيجابية للصين. وكشف استطلاع للرأي في إيطاليا في أعقاب أزمة كوفيد-19 بأن 36 في المئة من الإيطاليين لديهم رؤية إيجابية عن الصين وتتجاوز رؤيتهم حتى مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي حظيت بـ 28 في المئة بينما الغالبية العظمى ترى سلبا في واشنطن. ولعل المنعطف، هو بداية ظهور تيار قوي وسط المثقفين والسياسيين وحتى الاستخبارات والجيوش في أوروبا تميل نسبيا إلى الصين على حساب الولايات المتحدة.
وفي نقطة أخرى مرتبطة بالسابقة، ينزعج الأوروبيون من سياسة واشنطن بناء حلف رئيسي مع بريطانيا بعد بريكست بدرجة أكبر من بناءه مع الاتحاد الأوروبي. وترى باريس وبرلين على ضوء هذه التطورات عدم استعدادهما لاحتلال مرتبة مهمشة أو ثانوية في صنع القرار السياسي للغرب. ومما يثير غضب الفرنسيين والألمان هو عودة التحالف المقدس بين الأنكلوسكسونيين على حساب الغرب برمته. وإبان الحرب الباردة والسنوات التي تلتها، لم تتردد واشنطن في قيادة حلف أنكلوسكسوني مكون من بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا للتجسس على العالم بمن فيها الدول الأوروبية، وهو الملف المعروف باسم “إيشلون” الذي ألقى بظلاله على الثقة وسط مكونات الغرب.
ويتخوف الأوروبيون من خوض أي حرب باردة جديدة قد تقسم العالم إلى قسمين مثل الحرب التي هيمنت على العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حتى تفكك الاتحاد السوفييتي. وهذه المرة ستكون الحرب الغربية ضد الصين مختلفة، فهي ستؤدي إلى تقوية الثنائي موسكو-بكين، ودفع كل الدول الآسيوية تقريبا إلى الانضمام إلى هذا الثنائي. فهو ثنائي لا يهدد ديمقراطية أي بلد، حيث لن تكون للإيديولوجيات الاشتراكية الزعامة بل للمصالح التجارية والقومية في مواجهة الولايات المتحدة.
لا يمكن للولايات المتحدة خوض حرب باردة ضد الصين، في الوقت الذي تتخلى فيه طوعا عن قيادة العالم بل حتى قيادة العالم الغربي وتهميش المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة أو تصرفها غير المنطقي ضد منظمة الصحة العالمية. فهي، بهذا تمهد لزعامة الصين للعالم بشكل أسرع من المتوقع.
حسين مجدوب
القدس العربي