اختارت إحدى التعليقات الجميلة على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي جملة في رواية لكاتب فلسطيني يقول فيها والد لفتاة إن «إسرائيل اللي شايفاها يا جنين هي مرحلة عابرة في تاريخ فلسطين».
يمكن تقليب هذه الجملة بطرق عديدة، منها البلاغي الشعريّ الذي يبحث عن الضوء البعيد الآتي بعد ظلمة حالكة تسد الآفاق، ومنها التأملي الفلسفيّ الذي يستطيع استدعاء المعنى الإنسانيّ الذي يعمل من دون هوادة على الارتقاء بالبشريّة عبر تخليصها من أشكال الطغيان، ومنها التاريخيّ الذي ينتبه إلى أن «دولة إسرائيل» ذات الأسنان النووية، والترسانة التكنولوجية الهائلة، والقوّة الناريّة الفظيعة، ليست، بسنواتها الاثنين وسبعين التي تصادف ذكراها أمس، إلا تفصيلا بسيطا في تاريخ البشريّة الطويل الممتد، وتواريخ سكان هذه البلاد التي تعتبر من بين أقدم الحواضر البشريّة، ناهيك عن وضعها الرمزيّ المقدّس لدى ثلاثة أديان متعاقبة، وهو ما جعلها قبلة حجّ دينية على مدار الحقب، كما جعلها أرضا للحروب ولصراعات الجيوش بدعاوى مغطّاة بالسرديّات الدينية والأيديولوجية.
مهمّ في هذا السياق طبعا، ربط الماضي بالحاضر، وشبك الشعري والفلسفي والتاريخي بالأخطار الراهنة، مع استعداد حكومة «الوحدة الوطنية» الإسرائيلية، لاستكمال فصول جديدة من النكبة المستمرة، بضم مستوطنات الضفة الغربية والأغوار، إضافة إلى الخطوات السياسية التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص ضمّ القدس ونقل سفارتها إليها، ومحاولة كسر إرادة الفلسطينيين وإخضاعهم، وكذلك المساهمة التي تقدمها بعض الدول العربية لصالح «المجهود الحربي» الإسرائيلي، ومحاولات تطويع وإذلال الفلسطينيين وكسر مشروعهم.
مهمّ أيضا، وكي لا تجرفنا تفاصيل الحاضر المتغيّرة دائما، استعادة الثوابت والتأكيد عليها، وأهمّها، أن قضيّة فلسطين تأسست على تهجير شعب من أرضه، واستيطان هذه الأرض من قوّة غازية، وهو أمر تم تشريعه من قبل القوى الكبرى في العالم، وعلى رأسها روسيا السوفييتية والولايات المتحدة الأمريكية، بعد حرب عالميّة طاحنة أدى استهداف اليهود فيها، على يد ألمانيا النازية، واشتغال الإمبراطورية البريطانية والحلفاء على تفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتراكب هذه العناصر على المشروع الصهيوني، للتخلّص من يهود أوروبا باختراع غيتو كبير هائل لهم في قلب المنطقة العربية، وبذلك حلّت «المسألة اليهودية» على حساب العرب، وظهرت «المسألة الفلسطينية»، مع النكبة وإقامة دولة استعمارية استيطانية وعنصرية ودينية.
تحمّل الفلسطينيون العبء الأكبر لهذه المأساة، لكنّها صارت بؤرة تركيز لإشكاليات العالم العربي، فأمام هذا التحدّي التاريخيّ الذي مثلته إسرائيل بانتصارها على الجيوش العربية عام 1948، اشتبكت محاولات الفلسطينيين بتلمّس طريق للمقاومة والكفاح ضد هذا الظلم التاريخي الواقع عليهم، مع محاولات الأحزاب والنخب العربية لكسر هذه المعادلة الجائرة، فأعطيت المبادرة للعنصر العسكريّ والأمنيّ باعتبار أن «الحق يسترد بالقوة»، فبدأت الانقلابات العسكرية في سوريا ومصر، البلدين المحيطين بفلسطين، وتكوّن محور ضمّ العراق واليمن وليبيا والجزائر، وكانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 إعلانا عن فشل هذا الطريق، مما دفع الفلسطينيين لرفع البندقية وإعلان الكفاح المسلح.
وصل الكفاح المسلّح الفلسطيني إلى ذروة سياسية تمثّلت بإعلان اتفاقات أوسلو، وعودة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى فلسطين، مرورا باستشهاد ياسر عرفات، ووصولا إلى المرحلة الحاليّة، وبين هذين النقطتين، صعود الثورات العربية على كافة الأنظمة، التي توحّدت جميعها ضد محاولات التغيير.
يفتح هذا الشرح السريع الباب لرؤية جديدة تعيد تشبيك القضية الفلسطينية بمحيطها العربيّ والإنسانيّ، فالقضية الفلسطينية لا عمق ولا معنى لها إن لم تكن جزءا من النضال العربي والعالميّ ضد الطغيان، وخلل هذه المعادلة لن يكون على حساب الفلسطينيين فحسب، بل على حساب العرب أيضا، الذين ما زالوا يعتبرونها، أثناء ورغم اشتغالهم على جبهات الاستبداد خاصتهم، السرديّة الأم والقضيّة الكبرى التي تلخّص عذابات الشعوب.
القدس العربي