في مطلع القرن الحادي عشر، وجد الكرد أنفسهم وقد باتوا جيراناً لشعب جديد يبحث عن أرض. وفي القرن السادس عشر أسسوا لشراكة مضطربة مع بني عثمان، وفي القرن العشرين باتوا ألواح رماية لأجهزة القمع الطورانية.
كانت الدولة المروانية (982- 1086م) أقوى إمارة تحكم مناطق كردستان وأجزاء من أرمينيا وأذربيجان، ولم يكن أي تركي قد وصل إلى تلك الأرض بعد. في غضون سنوات قليلة تعرضت عاصمة الإمارة، ميافارقين، لأول محاولة غزو من قبل السلاجقة في عام 1042م بعشرة آلاف فارس. وعلّق ابن الأزرق، مؤرخ الدولة المروانية، والمعاصر لعدد من أمرائها، على هذه المحاولة بالقول: “وكان هذا أول ظهور الترك بهذه الديار، ولم يكن (الناس) قد رأوا صورهم” (تاريخ ميافارقين- ص 161).
أدى التزاحم على مكان واحد إلى اضطراب عسكري واجتماعي، حتى بدون نشوب قتال مباشر. فعلى الرغم من مشاركة الكرد الفعالة في معركة ملازكرت (ملاذكرد) سنة 1071، وهزيمة بيزنطة، فإن جوائز الانتصار آلت للسلاجقة، حتى أن التاريخ لم يعد يتذكر أي مشاركة كردية في هذه المعركة الفاصلة في تاريخ الشرق الأوسط.
منذ دخول السلاجقة إلى الشرق الأوسط، وحتى صعود الدولة العثمانية، دخلت البلاد الممتدة من خراسان إلى الأناضول في حرب أهلية مستمرة ومنهكة، غالبيتها بين القبائل التركية نفسها، والتي نقلت خلافاتها الآسيوية إلى مناطق الاستيطان الجديدة في بلاد الشام والعراق وكردستان والأناضول. استمرت حلقة الحروب الداخلية التركية على امتداد منطقة نتج عنها فرز للقوى تضمنت في طورها الامبراطوري ثلاث ممالك، اثنتان من الأنساب التركية، هي الصفوية والعثمانية، والثالثة مختلطة، تركية وقفقاسية، تمثلت بالمماليك في مصر والشام والحجاز.
أزاح الصفويون من طريقهم الممالك الصغيرة في بلاد الكرد، وتحولت أذربيجان من حاضرة للشعوب القفقاسية والكردية والإيرانية إلى مستوطنة هائلة لقبيلة قره قوينلو (الخروف الأسود) التي كانت تؤلف عماد القوات العسكرية للصفويين (القزلباش). على الطرف الآخر، كان السلطان العثماني سليم الأول، يحشد باسم الملّة السنية، شرقاً، قواته المؤلفة من القبائل التركية السنّية. لكن قواته هذه لم تكن كافية لتحقيق انتصار حاسم ونقطة تحول في تاريخ المنطقة، وما كان لهذا النصر أن يكتمل إذا لم يضمن وجود الكرد إلى جانبه. وكان الكرد وجدوا في سليم نصيراً تركياً ضد تركمان الآق قوينلو (الخروف الأبيض- السنّة) والقره قوينلو (الشيعة) اللذين كانا يستوليان على كامل كردستان، وكان أمير آق قوينلو، حسن الطويل، قد خطط قبل سنوات تتريك كردستان كاملة. ووفق أكمل الدين إحسان أوغلو، في كتابه “الدولة العثمانية”، كان أوزون حسن (حسن الطويل) يتصور نفسه “تيمورلنك الثاني” ويحلم بتوحيد الإمارات التركمانية بعاصمتهم دياربكر.
1.jpg
صفحة من نبذة تعريفية عن كردستان وأرمينيا في كتاب مدرسي عثماني بعنوان “مصور ممالك عثمانيه جغرافياسي” (اندبندنت عربية)
بهذا المعنى، كانت جالديران سنة 1514م فرصة لتأسيس علاقة تركية كردية جديدة، تتجاوز الخبطة المدوية التي تلقاها الكرد على أيدي السلاجقة ومن تبعهم. في المقابل، كانت هذه الوقعة فرصة لبني عثمان أن يتخلصوا من الصداع الذي تسببه لهم قبائل التركمان البدوية، الرافضة لمبدأ الدولة الامبراطورية نفسها. فسليم الأول بهذا المعنى، استقوى بالكرد ضد الصفويين، وقوّاهم ضد التركمان الذين كانوا من الرعايا غير المرغوب فيهم عثمانياً في تلك الفترة، وذلك لرفضهم التحول إلى رعايا بالمفهوم السائد.
قبل معركة جالديران التي حطمت تطلعات الصفوية جعل نهر الفرات الحد الغربي مع دولة الروم (العثمانية)، نال الشيخ والعالم الكردي الشهير، إدريس البدليسي، تفويض السلطان سليم، لترتيب الأوضاع في أصقاع كردستان المفككة والمتنازعة بين أمرائها، فجمع كلمتهم وأقنعهم بنظام إداري خاص، يكون الحكم بالوراثة، فقام مندوب السلطان، البدليسي، بتنظيم العلاقة بين الإمارات الكردية والسلطنة العثمانية بعهد مكتوب للحكم الذاتي شمل أكثر من 46 أميراً كردياً، منهم 12 بلقب الخان.
سليم الأول “العدو الودود”
وعن هذا كتب الرحالة أوليا جلبي منتصف القرن السابع عشر في “سياحتنامه”: “إن هذه الحكومات الاثنى عشرة منذ قانون السلطان سليم، لا يولّون ولا يعزلون، وهم يحكمون وذريتهم من قبل الوزراء وبأمر السلطان ويرسل إليهم أمر سلطاني بذلك، وأهل الولايات يسمون الحاكم منهم الخان… ولله الحمد فقد سحتُ في كردستان ذات الأرض الحجرية سبعة أعوام، وكتبت عن كردستان ما تحققت من صحته في كتاب قائم بذاته، ولولا وجود كردستان كسد بين آل عثمان والفرس لما تحقق الاستقرار لآل عثمان لأن الفرس خصم عتي شجاع”. (من كتاب: أوليا جلبي – رحلة إلى مصر والسوان والحبشة – ترجمة: حسين مجيب المصري – دار الآفاق العربية – ج 1 – ص 99، 100 ) وتقديراً للموقف الكردي، أرسل السلطان سليم للأمراء الكرد “15 علماً و500 خلعة من الخلع السلطانية الفاخرة” (خلاصة تاريخ الكرد – ص 249).
رغم سوء سيرة سليم الأول في كافة المناطق التي دخلها، حتى عجز مؤرخو بني عثمان عن إخفاء دمويته، فإنه سلك مع الكرد المسلك العجيب في الود. فالرجل الذي فوّض البدليسي توحيد الكرد ولم يطلب منهم ضرائب فوق طاقتهم، وسمح لهم بتشكيل جيوشهم، هو نفسه الذي سبى زوجة الشاه إسماعيل الصفوي. وورد في تاريخ الدولة العليّة لمحمد فريد بك: وفرّ الشاه بما بقي من جيوشه ووقع كثير من قادته في الأسر وأسرت أيضاً إحدى زوجاته ولم يقبل السلطان أن يردها لزوجها بل زوّجها لأحد كاتبي يده انتقاماً” (ص 74).
سرعان ما تحولت كردستان مجدداً إلى ساحة التقاء الجيوش الصفوية والعثمانية. وحتى عام 1550، كانت الحواضر الكردية قد تعرضت لتدمير شامل على أيدي هاتين القوتين، وكل منهما كان يستولي على قسم من الأراضي المأهولة بالكرد. خلال الفترة من 1514 وحتى نهاية عهد سليمان القانوني سنة 1566، تعرض الكرد لعقوبات جزئية طاولت بعض الأمراء، فقد كان للاتفاق الشامل، الكردي التركي، في جالديران، صدى في سنوات حكم القانوني، رغم خرقه للاتفاق حين عزل أميراً كردياً وعيّن محله أحداً من غير ورثته في بدليس. لكن ما إن تسلم مراد الثالث الحكم، سنة 1574، حتى كان “عهد السلام” الهش قد اهتزّ بشدّة. فقد تحولت الديار الكردية إلى هدف مستمر للغارات الصفوية، عاماً بعد عام، وهذا لم يسمح بالعمران بسبب الحملات العسكرية المتتالية، ومقتل عدد كبير من الكرد في كل حملة، حيث أن الدولة قد تنصّلت من مسؤولياتها في الدفاع عن كردستان في وجه الصفويين، باعتبار أن مسؤولية الدفاع ذاتية، ليدفع الأمراء الكرد ثمن الاستقلالية الممنوحة لهم في وجه جيش يفوقهم في الموارد وتحمل الهزائم. فضلاً عن ذلك، فإن اتفاق السلام الكردي العثماني المذكور قد قيّد بطريقة صارمة نمو أي إمارة كردية مركزية لقيادة مسائل الدفاع والإدارة، وبقيت حدود الإمارات شبه المستقلة شبه ثابتة “لا تتوسع، ولا تتوحد” تحت راية غير راية بني عثمان.
في الجانب المذهبي الذي كان رأس حربة الدعاية العثمانية، فإن أكراد قبيلة مكري السنية تعرضوا لواحدة من أفظع الأهوال في ملحمة “قلعة دمدم” على أيدي الصفويين عام 1607، دون أي نجدة من العثمانيين. وفي عام 1618 دخل الطرفان العثماني والصفوي في بازار حول الكرد، الذين يفترض أن سنّيتهم تضمن لهم أفضلية لدى بني عثمان. ويعلق العلامة محمد أمين زكي في “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان” على ذلك بالقول:
وأخيراً في ديسمبر 1618 انعقد الصلح للمرة الثانية بين الدولتين. وفي أثناء مذكرات الصلح عمد الشاه عباس إلى نقل 15 ألف أسرة كردية وإجلائها إلى بلاد خراسان للاستعانة بهم على التركمان ومنعهم من التسلط على الحدود الإيرانية في الشرق الشمالي” (ص 278). وهذا القسم من إيران، أي خراسان، على حدود تركمانستان وقرغيزستان، مأهول بالكرد بكثافة إلى اليوم.
سلال من الأنوف والآذان
لحسن الحظ كان الرحالة الشهير أوليا جلبي شاهد عيان، فضلاً عن دوره كمستشار لقائد الحملة العثمانية على إمارة بدليس، وسجل وقائع مجزرة في كتابه “سياحتنامة” سنة 1655. وقصة هذه الحرب هي جزء من الطبيعة النفسية لعدد كبير من سلاطين بني عثمان، وهو النزق والغضب والتهور والغرور. وقصة مجزرة بدليس تلك بدأت حين كان السلطان العثماني، مراد الرابع، عائداً من احتلال بغداد سنة 1639، فمكث في آمد وتلقى التهاني على انتصاره، لكن الأمير عبدال خان الكردي، أمير بدليس، وصاحب الجاه والمعرفة والثقافة، لم يأتِ بنفسه لتهنئة السلطان. وبحسب ما نقله أوليا جلبي عن رسالة بعثها قائد الحملة العثمانية للأمير عبدال خان: “فقال لي السلطان يا أحمد يجب أن تأخذ بثأري وتنتقم لي من ويسف زعيم قبيلة المزورية ومن عبدال خان البدليسي، وقد توفي هو ورحل عنا وبقيت أنا والياً لدياربكر..”. ومن المعروف أن السلطان مراد الرابع يعد من بين سلاطين بني عثمان، مؤسس التطرف القومي التركي في نظام الحكم، وتبعه عدد من السلاطين الآخرين.
ويمكن العثور على الروح العنجهية في رسائل أحمد باشا للأمير الكردي، والتي جمعها وعلق عليها الباحث بوار نور الدين في كتاب خصّه عن هذه الواقعة بالتحديد. ومن جملة ما يهدد به الباشا العثماني: “عهداً أن أقوم بمعاقبة عبدال خان وتأديبه إلى أن يصبح هو وأولاده عبيداً للعثمانيين” (139).
وقعت المعركة وأوليا جلبي يشاهد عجائبها وأهوالها، فكتب: أما جنودنا فمن كثرة ما قطعوا من الرقاب بلغ حداً لن تسعها سلالهم، فقطعوا الأنوف والآذان والرؤوس، وكان كل منهم يطمح في جلب 20 أذناً و10 أنوف، فأحدهم كان معه 40 أذناً و20 أنفاً… إن الشخص الذي يأتي بسلال أكثر مليئة برؤوس مقطوعة سيحصل على هدايا أكبر…” (المرجع السابق- ص 65 – 66). وبيعت أملاك الأمير الكردي في مزاد علني ونهب الجنود ما استطاعوا إليه سبيلاً.
نكبة كردستان
شيئاً فشيئاً، لم يبق من العهد الاستراتيجي بين سليم الأول والأمراء الكرد سوى الذكرى. وبدأت الإمارات الكردية تسقط بالتتالي، ووجهت لها ضربات قاضية منذ تدشين الإصلاحات في الدولة العثمانية بدءاً من سنة 1839. كان هذا عهد المجازر المستمرة إلى اليوم. فبينما كانت تتقلص حدود الامبراطورية في البلقان، كانت تزداد عنفاً في الداخل، خصوصاً أن الطبقة السياسية قد قررت الإجابة عن سبب تأخرهم وتقدم أوروبا. فكان الجواب: “يجب السير على خطاهم”. ورغم عدم إمكانية تخطئة الاجتهاد في تطوير الدولة، فإن العديد من السياقات الخاطئة قد ارتدت عكسياً، وأسفرت عن تدمير الإصلاحات.
تطلبت الرؤية الجديدة إلغاء إمارات الحكم الذاتي في الدولة، ومنها ولايات كردستان، وكانعكاس مباشر لذلك، تصاعد التوتر الديني بين المكونات والطوائف، واختفت من الساحة، شيئاً فشيئاً، السلالات العريقة الحاكمة وفق تحالف جالديران عام 1514. فكان القرن التاسع عشر، قرن الثورات الكردية والمجازر العثمانية، وذلك نتيجة سوء الفهم المشترك للإصلاحات. فقد فهمتها النخبة العثمانية الموالية لأوروبا، أن ذلك يعني إسقاط الإمارات الكردية شبه المستقلة في المناطق المجاورة للتواجد المسيحي في أنحاء كردستان وجوار أرمنستان.
بَنَت الدولة العثمانية تحالفها مع الكرد، عام 1514، على مبدأ ضمني: التوافق السنّي سياسياً ضد الشيعة، والإسلامي ضد المسيحية. أما بعد الإصلاحات (خط كلخانة 1839 – خط همايون 1856) فباتت الدولة متحيزة – في نظر الأمراء والمشايخ الكرد – لصالح المسيحيين.
هناك الكثير من الإشكالات التاريخية في تشريح هذه المرحلة، إلا أن نتائجها ظاهرة للعيان. فقد أنهت الدولة العثمانية إمارة صوران، الواقعة اليوم في إقليم كردستان العراق، سنة 1834. وإمارة بوطان سنة 1847. كما انهارت إمارة بابان بقرار عثماني أيضاً مع منتصف القرن التاسع عشر. وحين تسلم السلطان عبدالحميد الثاني الحكم سنة 1876، كانت الإمارات الكردية التاريخية الممتدة منذ بواكير الحكم الإسلامي لكردستان، قد اختفت تماماً، وخلفت وراءها فوضى ومجازر وحملات تهجير.
لقد دشّن سقوط الإمارات الكردية مرحلة بائسة في التاريخ الكردي. فقد شكل نمو إمارة بوطان في عهد “بدرخان بك” مصدراً لتعزيز نزعة الاستقرار الطوعي لكثير من القبائل الرحّل، وأدى هذا التخلخل الحضري في هذا التوقيت الحرج حضارياً على مستوى العالم، إلى تفشي البداوة غير المنظمة في كردستان وتحطم فرصة الانتقال من طور إلى آخر أكثر تقدماً بمعايير ذلك الوقت.
قدم الباحث الروسي ديتيل، الذي زار كردستان وإيران بين 1842 – 1845، ملاحظة في هذا السياق: “في وطن بدرخان يسافر الطفل وفي يديه الذهب”.
من أمثلة الرؤى المتناقضة للإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر، أن بعض المبشرين المسيحيين فهموا منها فتح الباب أمامهم لتنصير الكرد. وفي هذا الإطار كتب المبشر الأميركي في هكاري، جاستن باركيز: “إن الرب قد فتح الآن الجبال الكردية أمام الإنجيل”. (سعد بشير اسكندر – قيام النظام الإماراتي في كردستان وسقوطه – ص 231.). مع تسلمه السلطة في فترة حرجة، حاول السلطان عبدالحميد الثاني (1876 – 1909)، الانقلاب على الإصلاحات، وأوقف العمل بالدستور الذي أقره بنفسه عام 1876، وسحب المزايا الممنوحة للأرمن في الإصلاحات السابقة.
استعمال الأكراد والتخلي عنهم
كانت إشارة التقطها الكرد على الفور وهم يرون كيف حوّل إرث الإصلاحات العثمانية بلدهم إلى كومة من الخراب مليئة بقطاع الطرق والقتل. فقد بات لديهم مجدداً حليف هو السلطان نفسه، وهذا لم يحدث سوى مرة واحدة في السابق، مع السلطان سليم الأول. وقد ابتكر السلطان عبدالحميد منهجاً جديداً سمح فيه للكرد بالتمييز بين الدولة وبين الخليفة – السلطان. فبهذا المعنى، كانت حقبة السلطان عبدالحميد هي التي كان فيها الكرد مناهضين للدولة الإدارية (موظفين، جيش، ولاة.. إلخ) وموالين للسلطان. ويمكن إيجاد هذا الأثر في أن عبدالحميد الثاني، كان على اتصال مباشر مع بعض الشيوخ الكرد، دون مرور المراسلات في المراحل الرسمية.
كان للطرفين حساباتهما، ويلتقيان في مناهضة القوميات والطوائف الموالية لروسيا داخل الدولة. ونتيجة الاستثمار المتبادل، فضلاً عن تعدد مراكز النفوذ في الآستانة بداية عهد السلطان عبدالحميد، حملت أبرز شخصية كردية في تلك الحقبة، الشيخ عبيدالله شمزيني (النهري)، لواء ثورة وطنية كردية عامة شملت أراضي كردستان في الدولتين الإيرانية والعثمانية، معاً، سنة 1880. وبعد هجومها الواسع على الحاميات القاجارية في كردستان الإيرانية، تمكن أتباع الشيخ من تحرير معظم مناطق العشائر الكردية في حوض بحيرة أورميه، لكنه تعرض للهزيمة لاحقاً بعد تدخل الباب العالي سياسياً لإيقاف اندفاعة الشيخ التي أقلقت الدولتين رغم شبهة تواطؤ بين النهري والسلطان. وتشير وثيقة بريطانية مؤرخة في تموز (يوليو) 1880 من القنصل العام إلى مستر تامسون، ضمن مجموعة وثائق جمعها تيلي أمين في كتابه “النهري في الوثائق البريطانية”: “يسعدني أن أعرض لمقامكم أن الموقف الذي اتخذه الباب العالي في العام الماضي من الشيخ عبيد، زعيم الكرد، موقف خطير جداً في المستقبل. الحكومة التركية وبدل أن تقاتل الشيخ بشدة تبعث إليه بالهدايا”.
إلا أنه سرعان ما تبين للعثمانيين أن ما يطمح إليه الشيخ أكبر ألاعيب السلطان والباب العالي. ففي رسالة له إلى المبشر الأميركي في أورميه، الدكتور جوزيف كوجران، يقول النهري بوضوح:
إن الشعب الكردي يتألف من 500 ألف عائلة، يملك خصوصياته الدينية والوطنية والقومية والعرقية وله أصوله وقوانينه الخاصة به. وبصدد عدم تطور كردستان، ينبغي القول أيضاً إن الحكّام الإيرانيين والعثمانيين، وفي سبيل تثبيت سلطتهم على المنطقة، يظهرون عدم أهلية الكرد ويحولون دون التطور الاقتصادي والاجتماعي في كردستان. الآن توصل الكرد إلى أنه لا طريق أمامه للحياة في ظل الإيرانيين والعثمانيين”.
ويعلق المؤرخ الكردي في جامعة دهوك، الدكتور عبدالفتاح بوتاني، في دراسة بعنوان “بدايات الشعور القومي الكردي” إنه لمنع أية حركة قومية كردية في المستقبل، لا سيما بعد حركة الشيخ عبيدالله النهري، لجأت الدولة العثمانية إلى وسائل جديدة، منها تنظيم هجرة الأتراك إلى كردستان… إلا أن أخطر ما أقدمت عليه الدولة العثمانية كان تقوية النظام العشائري في كردستان، فشكّلت الفرسان الحميدية (نسبة للسلطان عبدالحميد الثاني) سنة 1891″. وكان لهذه الميليشيا دور كبير في الخراب الاجتماعي والتعايش الكردي الأرمني.
بعد فشل الثورة، قام العثمانيون بنفي الشيخ إلى الحجاز، وتوفي ودفن فيها. غير أن ما أسسه بات أرضية صلبة لكافة الحركات الكردية اللاحقة، والتي كان لها المصير ذاته. وخلال الأعوام التالية، شهدت العلاقات بين الكرد والسلطة هدنة غير معلنة، بسبب ضعف القوى الاجتماعية الكردية المستقلة، وصعود تنظيم الفرسان الحميدية. إلا أن هذه الهدنة لم تشمل بأي حال من الأحوال الكرد الإيزيديين الذين بقوا هدفاً مستمراً للسلطات العثمانية منذ أول تفاهم كردي تركي.
صمت المؤرخين
إن كتابات المؤرخين العثمانيين ممن لا يوافقون بعض أفعال السلاطين والباشوات، لا ينتقدون مباشرة، لكنهم يتجنبون الإطراء على الفعل القبيح. وهذا حال كل أوامر التصفية والتدمير بحق مجتمعات محلية. ومثال ذلك أن المؤرخ والموظف العثماني بجوي إبراهيم أفندي، كان مرافقاً للسلطان مراد الرابع في معظم جولاته، وروى مرة قصة عن قتل السلطان لشيخ ذو حضور اجتماعي في كردستان، يلقب بـ”الرومي”. ويحتار بجوي المؤرخ كيف يبرر فعلة السلطان. فكل ما في الأمر أن الشيخ الرومي (والصحيح شيخ أورميه، على اسم منطقة بحيرة أورميه في كردستان) كان يثني على كردستان، وكان أهلها (الكرد) يسألون عنه بينما هو في حضرة السلطان: “وبموجب مضمون القول الملك عقيم، كان قد أصبح ذلك الحال سبباً لغيظ السلطان” (بجوي – التاريخ السياسي والعسكري للدولة العثمانية – الجزء الثاني- ص 527). كذلك يأخذ أكمل الدين إحسان أوغلو هذا المسلك في كتابه “الدولة العثمانية”، ويكتفي بالقول إن حادثة إعدام هذا الشيخ النقشبندي “أثارت ردود فعل كان لها صدى واسع” ( ص 186 – الجزء الثاني).
في العموم، يتفادى المؤرخون العثمانيون، المعاصرون والقدماء منهم، تقييم المجازر المرتكبة خلال تاريخ هذه الدولة، وامتداداتها في الحاضر المتمثلة بالجمهورية التركية. ولعل في مثال حادثة قتل “شيخ أورميه”، على هامشيتها ضمن سلسلة المجازر الجماعية، نموذجاً في كيفية معالجة هكذا أحداث، وهو الكلام العام الذي لا يفسر شيئاً. فرئيس الوزراء السابق، أحمد داوود أوغلو، في كتابه العمق الاستراتيجي، يتطرق إلى مرحلة الإصلاح في الدولة العثمانية، وهي مرحلة الاضطراب الممتدة بين 1839 وحتى انهيار الدولة وقيام الجمهورية التركية سنة 1923. فهو يتحدث عن ضرورة “الاستمرارية التاريخية” للميراث السياسي في الدولة التركية، قاصداً العثمانية، من دون تبني ركائز العثمانية السياسية. وفي هذا الإطار، فإنه يوجز تداعيات فترة الاضطراب العثماني، التي أنتجت أكثر المجازر وحشية في القرن العشرين بخلاصة تقوم على نتيجتين: أولاهما: مفادها أن الضغوطات التي تهدف إلى تكوين ثقافة سياسية جديدة وتنتشر من المركز باتجاه الأطراف بنمط هرمي، تحطّم أسس الاستمرارية التاريخية للهوية السياسية والثقافية ومؤسساتها. الثانية أن خط القطيعة التاريخية، الذي يستند إليه النظام السياسي في محاولته لتحقيق التكامل مع المجتمع الأوروبي، قد تغرّب عن محيطه الجيوثقافي القريب. (104 – 105).
لكن داوود أوغلو، حين ينتقل للحديث عن العلاقات مع دول المنطقة، ينزع لباس المصلح العثماني في القرن الواحد والعشرين، ويرتدي بزّة أنور باشا ويخط بقلم ضياء كوك ألب. ولعل من الملفت أنه يجيب بشكل تلقائي عن سبب عدم ترسخ مجازر الدولتين العثمانية والتركية في الذاكرة العامة العربية بالشكل الذي جرى مثلاً بالنسبة لمذبحة حلبجة. فيقول داوود اوغلو عن العمليات العسكرية التي شنها الجيش التركي في إقليم كردستان العراق في 2007 – 2008 ضد حزب العمال الكردستاني، والذي جرى فيه قصف القرى والبلدات الواقعة على خط المواجهات بطائرات حربية، ما يلي:
بهذه الاستراتيجية الجديدة، لم تتناول الصحافة العربية أو الغربية العمليات العسكرية التي قامت بها تركيا في شمال العراق بأي نقد يذكر. فضلاً عن أن تركيا لم تتعرض لانتقاد صريح من أي دولة أو مؤسسات دولية. (ص 624).
أما غدر مصطفى كمال بالكرد بعد أن استفاد منهم في حرب الاستقلال وتحرير تركيا، فيكتفي إيلبير أورتايلي في كتابه “أتاتورك” بالتشكيك في أن يكون مصطفى كمال قد وعد الكرد بحكم ذاتي في سنوات الحرب، ويستدرك بالقول: “لا يمكن قبول العبارات العامة على أنها وعود جدّية”!
حسين جمو
اندبنت عربي