هبطت الليرة السورية، منذ مطلع مايو/ أيار الجاري، إلى مستوى لم تشهده في تاريخها إلى 1805 ليرة مقابل الدولار الواحد، لتتأثر الأسواق السورية بشكل أو بآخر بذلك الانهيار، ما أسفر عن ارتفاع جديد للأسعار.
ثمة عوامل وأسباب ما تزال تعصف باقتصاد النظام السوري، تكاد تطيح به لولا تكاسل المجتمع الدولي، وتقاعس الدول الفاعلة في المعادلة السورية، عن إيجاد توليفة للبديل القاسم المشترك للجميع، وهي مهمة ليست بالمستحيلة حال توفر الإرادة السياسية.
جائحة كورونا وعاصفة النفط واستمرار واشنطن في سياسة الضغط القصوى على إيران، الداعم الرئيس لبشار الأسد، ظروف أربكت طهران ودفعتها إلى الانكفاء والانشغال بهمومها الداخلية، واضطرتها لتحجيم أذرعها الخارجية وخصوصا في سوريا والعراق ولبنان.
ضعف إيران الداعم شبه الحصري لنظام بشار الأسد، عمق من جروح الأخير، وزاد من تفاقم أزمته المالية الاقتصادية التي يعاني منها منذ سنوات، وتسبب في انهيار الليرة السورية أمام الدولار.
ومما زاد في نكبة النظام، ارتفاع وتيرة الخلافات البينية داخل بنيته الأساسية، وضمن الدائرة الضيقة للعائلة الحاكمة. هذه الخلافات والتصدعات بدأت تظهر للعلن، بعد أن كانت جمراً تحت الرماد.
آخر الخلافات بين مكونات النظام، قيام رامي مخلوف، ابن خال الرئيس وأحد الأعمدة الأساسية لنظام الأسد، برفع راية العصيان في وجه رئيسه.
لكن الذي دق ناقوس الخطر، ما رافق عصيان مخلوف من تراشقات إعلامية بين مقربين من الكرملين من جهة، ومقربين من نظام دمشق في الجهة المقابلة، مما يؤكد أن للخلافات بعد خارجي دولي يتعدى دائرة النظام الداخلية.
** انخفاض قياسي
تراجعت الليرة في السوق الموازية للعملات داخل المدن السورية، لمستويات قياسية تجاوزت 1800 ليرة لكل دولار واحد. ويأتي ذلك التراجع مدفوعا بتصاعد الخلافات داخل بنية النظام السوري، عززها انشقاق رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد.
ومنذ مطلع 2020، يكون صرف الدولار الأمريكي قد صعد مقابل الليرة السورية بنسبة تقارب 60 في المئة، إذ أنهت الليرة تعاملات 2019 في السوق السوداء عند 915 مقابل الدولار.
ووفق أسعار صرف الأيام الأخيرة، تكون العملة السورية قد فقدت أكثر من 29 ضعفاً من قيمتها أمام النقد الأجنبي، منذ قيام الثورة عام 2011، حيث كان سعر الدولار بمتوسط 50 ليرة.
** أسباب الانخفاض
تعيش الليرة السورية أسوأ فترة، وأدنى مستوى لها في تاريخ الدولة السورية، نتيجة أسباب عديدة يمكن إجمالها من خلال عوامل ثلاثة رئيسية.
أولا: عوامل اقتصادية
– انخفاض أسعار البترول في السوق الدولية، الذي أثر بشكل سلبي على الدول الداعمة للنظام، بسبب اعتمادهم على تجارة البترول بشكل كبير في اقتصاداتهم. وانخفضت على أثره مساعدات إيران النقدية لسوريا.
– خلو البنك المركزي السوري من النقد الأجنبي والذهب، حيث يعتبر وجود احتياطي العملات الأجنبية والذهب الركائز الأساسية التي تستند عليها العملات الوطنية. وقد أصبح البنك المركزي فارغا من احتياطي النقد الأجنبي، بسبب توقف ايرادات ترانزيت النقل البري والبحري والجوي، وتوقف حركة التصدير، المساهم الأكبر في إيرادات العملات الاجنبية.
– توقف شبه كامل لعجلة الإنتاج، فأصبح النظام يستورد السلع الضرورية من الخارج، حيث تتم عمليات الشراء بالنقد الأجنبي وخصوصا الدولار، مما أدى إلى زيادة الطلب عليه، ونقصه في السوق، وبالتالي ارتفاع سعره على حساب الليرة المحلية.
– خروج البترول والقمح والبقوليات وعدد من السلع الاستراتيجية الهامة من أيدي النظام.
– انخفاض الناتج القومي المحلي في سوريا، وتوقف عجلة الإنتاج والاقتصاد بدرجة كبيرة. بسبب قيام النظام بتدمير المصانع وخطوط الإنتاج، وتدمير البنية التحتية التي تعتبر أهم دعائم الاقتصاد.
– ارتفاع مستوى الفقر عند السوريين، بسبب النزوح في الداخل والهجرة للخارج، وتحول ما يزيد عن نصف السكان من عاملين منتجين إلى مستهلكين عاطلين عن العمل.
– توقف التحويلات المالية من الخارج، حيث بات السوريون في الخارج معنيون بدعم وإغاثة أهاليهم الذين تحولوا إلى نازحين داخل القطر، ولاجئين في بلاد الشتات.
ثانيا: عوامل سياسية
– العقوبات الاقتصادية على الدول الداعمة للنظام السوري، ايران أولا ثم روسيا، إضافة إلى حالة عدم الاستقرار في كل من لبنان والعراق، رئتا النظام التي يتنفس من خلالهما، سيما لبنان، وخاصة المصارف والبنوك اللبنانية التي تعتبر مخزن عملات التجار الذين يتعاملون مع النظام بتأمين العملات الأجنبية، حيث منعت تلك البنوك صرف مبالغ كبيرة لعملائها، مما خلق أزمة نقد وسيولة في طرف النظام بدرجة كبيرة.
– العقوبات الأمريكية والأوربية المفروضة على شخصيات رئيسية في النظام السوري، والتي تعتبر اذرعه الاقتصادية، مثل رامي مخلوف، وسامر الفوز، ووسيم قطان، وعدد غير قليل من المسؤولين والتجار الذين يؤمنون احتياجات النظام من الخارج.
– تمويل الحملات العسكرية ضد قوات المعارضة، والإصرار على خيار الحسم العسكري طيلة تسع سنوات متتالية، سلبت النظام كل ما يملك من مقدرات اقتصادية.
– انخفاض نشاط المنظمات الدولية، في مناطق المعارضة والنظام على حد سواء؛ هذه المنظمات كانت تقدم المنح وتفتح المشاريع الإغاثية بالنقد الأجنبي، مما كان يشكل أحد الموارد الهامة للعملة الصعبة في سوريا.
– أدى تفاقم الخلاف بين مخلوف والأسد، إلى توقف العديد من الأنشطة الاقتصادية التي كانت مرتبطة بشركات مخلوف، واصبحت شركاته تحول أرصدتها من العملة المحلية للعملات الأجنبية، ثم تحويلها إلى خارج البلاد، فزاد الطلب على الأخيرة، كما زاد عرض الليرة السورية، فهبط سعرها.
– اصبح أمراء الحرب يحولون أرصدتهم من الدولار خارج سوريا، مع اقتراب تنفيذ قانون قيصر.
– المخاوف من التوترات المحتدمة في الشرق الأوسط، وهو ما يعكس ضعف إيران وعجزها عن دعم الاقتصاد السوري.
ثالثا: عوامل إدارية
غياب منطق الدولة لدى المؤسسات الحكومية، منذ أن فرض النموذج الإيراني نفسه في سوريا، فتحولت الدولة السورية/ النظام، من مؤسسات إلى مجرد مليشيات تعتبر نفسها حامية الوطن، لا تحترم قانونا، ولا تطبق سياسة، ولا تراعي تعليمات، فبات الاقتصاد أسير أمراء الحرب، من القادة الميدانيين في جيش النظام والميليشيات التي جنت أموالا طائلة من الحرب، وشلت حركة مؤسسات الدولة، وفقدت قدرتها على اتخاذ قرارها المستقل.
ويأتي البنك المركزي في مقدمة مؤسسات الدولة التي تعاني من الشلل، وعدم القدرة على اتخاذ القرار السيادي المناسب؛ فكان من الطبيعي أن يعجز عن التصدي لمشكلة هبوط الليرة.
هذا بالإضافة لسلسلة من السياسات النقدية الفاشلة التي أدت على مدار سنوات الحرب إلى تدهور سعر الليرة أمام الدولار، وهذا ما ساهم في فقدانها قيمتها أمام بقية العملات.
** كبر الخرق على الراقع
في محاولة لضبط حالة الفلتان التي تشهدها الأسواق السورية، وسط سخط شعبي عارم من ارتفاع الأسعار وعدم تطابقها مع نشرة الأسعار الخاصة بوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أصدر رأس النظام بشار الأسد مرسومين رئاسيين، الأول تم بموجبه، إعفاء وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عاطف النداف، من منصبه، وتعيين محافظ حمص “المثير للجدل”، طلال البرازي، بديلاً عنه.
أما المرسوم الثاني، فينص على إعفاء المواد الأولية المستوردة، والخاضعة لرسم جمركي 1 بالمئة، من كافة الرسوم الجمركية والضرائب المفروضة على الاستيراد، لمدة عام واحد، اعتباراً من 1 يونيو/ حزيران القادم.
وبحسب رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها، سامر الدبس، في حديث لصحيفة “الوطن” الموالية، الأحد، فإن المرسوم الصادر من شأنه تخفيض أسعار المنتجات المحلية في الأسواق السورية، على اعتبار أنه يوفر على الصناعي السوري نحو 10% من قيمة فاتورة مستورداته من المواد الأولية، التي كانت تُدفع كرسوم وإضافات غير جمركية.
لكن المعاناة التي يعيشها الاقتصاد السوري، من تدهور الليرة السورية والعقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على النظام، إضافة إلى جائحة “كورونا” وما تلاها من إجراءات، تجعل من شبه المستحيل ضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، وجعلها متناسبة مع دخل الأفراد، وبالتالي فإن إجراءات النظام التي جاءت في الوقت الضائع، لن تشكل سوى ضماد مؤقت لجرح غائر.
** تداعيات انهيار الليرة
ثمة عوامل اقتصادية فعلية تتعلق بانخفاض موارد سوريا من النقد الأجنبي، وزيادة النفقات منه لتأمين احتياجات المواطنين، وخاصة في ظل انخفاض مستوى الإنتاج المحلي وانعدام التصدير، مقابل الاعتماد الكلي على الاستيراد.
من شأن الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها النظام، أن تدفع أركانه إلى إعادة النظر في حساباتهم الخاصة، بعد إدراكهم لمحدودية قدرات النظام على التصدي للعقوبات والعزلة المفروضة عليه، في ظل عدم قدرة إيران وروسيا على مساعدته نظراً لأزماتهما الداخلية.
أصبح لدى موسكو قناعة، بأنه اذا استمرت الحالة الراهنة في سوريا، دون اصلاحات عميقة تمس اسس النظام السياسي فإن الانهيار والسقوط آت لا محالة. وأنه ما دامت عائلة الاسد في السلطة فلن تتحقق أية اصلاحات جدية، وأن بشار الأسد ما زال يلعب على تناقضات طهران وموسكو ويحاول تجميع الأموال في يديه، بواسطة الدور الذي تلعبه زوجته أسماء، من خلال هيمنتها على شركة سيريا تيل وغيرها من المؤسسات التي تشكل عصب الاقتصاد السوري.
تعترف موسكو بأنها فشلت خلال فترة تدخلها في سوريا في كسب نخبة موالية لها، وأنها لم تعمل على تاسيس قوة سياسية تدعمها.
روسيا التي رفعت من مستوى دورها العالمي، وحققت مكاسب استراتيجية كبيرة، بعد عودتها إلى الشرق الأوسط، عبر البوابة السورية، مهددة اليوم بـ”الانسداد الشرق أوسطي” على حد قول الخبيرين الروسيين: أنطون مارداسوف وكيريل سيميونوف، من غير المعقول أن تسمح لنظام الأسد بتدمير مكتسباتها.
صحيح أن طرق باب واشنطن سيكون من أبغض الأمور بالنسبة للروس، لكنه يظل أهون الشرور من “أفغنة” سوريا.
(الأناضول)