إذا قرأت الأحداث بعقل يجمع الأمس واليوم وغدا، ويضع النقاط على الحروف، ويقرأ ما بين السطور، ويحلق في فضاء الرؤية، فسوف تدرك بسهولة أن الحرب الباردة الجديدة التي تخوضها الولايات المتحدة، إنما تهدف إلى فرض العزلة على الصين، واغتيالها معنويا، وإبقاء الولايات المتحدة في مكانة منفردة بصدارة العالم تحت شعار مفضوح يقول بلا مواربة: أمريكا أولا. هذا يعني أمريكا فوق الجميع بمن فيهم الحلفاء، وأن لعبة السياسة الخارجية بالنسبة للولايات المتحدة، مثل طاولة القمار، واحد فقط يربح والباقون يخسرون.
الحرب الباردة لا تهدف إلى قتل الخصم، ولا إلى تدميره بالقوة المسلحة، كما فعلت الولايات المتحدة مع اليابان، نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنما كما فعلت مع روسيا السوفييتية، نهاية الحرب الباردة. الآن تريد الولايات المتحدة أن تتكلم وأن تسمع الصين. الاتفاق التجاري للمرحلة الأولى لتسوية الحرب التجارية ينص على أن تزيد الصين وارداتها من الولايات المتحدة بقيمة 200 مليار دولار. الصين قالت نعم، مقابل تجميد الحرب التجارية، لكنه الآن يريد خنق كبرى شركات معدات وأجهزة الاتصالات في العالم، هواوي الصينية، ومنع الحكومات والشركات غير الامريكية من التعامل معها. ترامب يريدها حربا مفتوحة يبتز من خلالها الصين وينزح ثرواتها. هو يتعامل مع الصين الآن وكأنه الجنرال مكارثر قائد القوات الأمريكية في اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، الذي اشرف على تفكيك اليابان سياسيا واقتصاديا وعسكريا بعد الحرب العالمية الثانية. ترامب يريد أن يأخذ بدون مقابل.
المبرر الذي يستند إليه ترامب لشن الحرب الباردة، ينطلق من أن تفوق الصين هو الخطر الرئيسي الذي تواجهه أمريكا في القرن الواحد والعشرين. ومن أجل إزالة هذا الخطر فإنه لا يكفي فقط إضعافها، وإنما يجب عزلها عن العالم وتشويه صورتها، وجعلها دولة مكروهة في الشرق والغرب على السواء. ولا تتحقق العزلة فقط بفرض طوق من قواعد الصواريخ النووية المتوسطة المدى حول الصين، واستفزازها عسكريا في بحري الصين الشرقي والجنوبي، ولكن العزلة تتحقق في صورتها الكاملة، عن طريق شل كل قدرات الصين عن التمدد خارج حدودها، ثم يأتي بعد ذلك هدف إضعافها داخل الحدود. فرض العزلة هو المرحلة الأولى، ويتحقق ذلك بضرب النفوذ الخارجي للصين. أما المرحلة الثانية فهي تفجير الصين من الداخل بإثارة المؤامرات السياسية الداخلية وتفكيك السلطة المركزية للحزب الشيوعي والدولة، وتخريب الحزب من الداخل، في تكرار لتجربة أمريكا مع روسيا.
لكن هل يمكن فعلا فرض العزلة على رُبع الدنيا؟ وهل يمكن فعلا فرض نظام واحد على البشرية، بينما جعل الله في الاختلاف رحمة؟ وهل يمكن فعلا أن يستمر التفوق الأمريكي للأبد، وأن تتمتع الولايات المتحدة باستمرار في قيادة العالم بدون منافسة من غيرها؟
الحقيقة أن الإجابة العاقلة على هذه الأسئلة تحتاج بادئ ذي بدء إلى استدعاء عدد من الحقائق الضرورية، بعيدا عن الزيغ والتحيز. وسوف أحاول هنا أن أجمع حقائق متصلة من حيث الموضوع، وموضوعات متشابكة من حيث التفاعل، وتفاعلات لها دلالات، من حيث صنع المستقبل. الحقيقة الأولى هي عن الاقتصاد، الذي هو أحد أهم موضوعات الصراع المباشر في الحرب الباردة الحالية. أمريكا تخشى من أن تتحول الصين إلى قوة عظمى اعتمادا على تفوقها الاقتصادي. السؤال هو: هل يصنع الاقتصاد وحده قوة عظمى؟
الاقتصاد وحده لا يصنع قوة عظمى، صناعة القوة العظمى تستلزم قوة اقتصادية ذات نوعية فائقة مقارنة بالمنافسين. ولن نذهب بعيدا. الولايات المتحدة أصبحت أكبر قوة اقتصادية في العالم منذ العام 1871، لكنها لم تصبح قوة عظمى عالمية إلا عام 1945، أي بعد نحو 74 عاما من تفوفها الاقتصادي على بلدان مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا، التي كانت تمثل قيادة النظام الرأسمالي الاستعماري. خلال تلك الفترة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين، كان الاسترليني هو عملة المبادلات التجارية الرئيسية في العالم وليس الدولار، وكانت بريطانيا هي القوة العظمى، أو الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. وكانت جامعات أوكسفورد وكامبريدج، أشهر المراكز الأكاديمية في العالم، وليس هارفارد وبيركلي. وكانت السينما البريطانية والإيطالية هي الأشهر في العالم. وكانت بورصة لندن هي المركز المالي للعالم. كل ذلك بينما كانت بريطانيا هي ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة. هذا يجعلنا نتساءل عن مصير القوة الاقتصادية للصين، التي تخشاها الولايات المتحدة وتحاربها على جبهات التجارة والتكنولوجيا والاستثمار، لدرجة أن هذه الحروب أصبحت تستحوذ على طاقة وموارد أكبر من تلك التي توجهها الولايات المتحدة لمحاولة سبق الصين والتفوق عليها.
حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة مشغولة بإعاقة تقدم الصين، باستخدام إجراءات سلبية مثل الرسوم الجمركية، وحظر تصدير السلع التكنولوجية، ومنع الاستثمارات الصينية من الدخول إلى مجالات التكنولوجيا المتقدمة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الحليفة. لكن الصين على العكس تماما، مشغولة إلى أقصى حد بتنمية نفسها، والتفوق على نفسها، والانتقال باقتصادها إلى مستويات نوعية أعلى، وتوسيع نطاق الطبقة الوسطى المستهلكة للسلع الراقية، حتى تضيف طلبا جديدا على منتجات الصناعة الصينية، يحميها من تقلبات التصدير. لقد اتسع حجم الطبقة الوسطى في الصين حاليا، ليفوق كل عدد سكان الولايات المتحدة، وهي طبقة تتميز بذوق استهلاكي رفيع، يساعد على تطوير منتجات الصناعات التكنولوجية إلى أعلى مستويات الجودة المقبولة في الأسواق العالمية.
تلعب الصين الآن دور القاطرة التي تجر وراءها عربات النمو في العالم، وإذا عطست الصين أو تعثرت يمرض العالم
الصين تنمو بمعدل يفوق ثلاثة أمثال معدل النمو في الولايات المتحدة. عندما كانت الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتقود بنفسها برنامج إعادة الإعمار الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يبلغ 30 مليار دولار عام 1952. الوضع تغير عام 2019 حيث تضاعف الناتج المحلي للصين أكثر من 455 مرة مقارنة بما كان عليه بعد الحرب. الآن تلعب الصين دور القاطرة التي تجر وراءها عربات النمو في العالم، وإذا عطست الصين أو تعثرت يمرض العالم. وتمثل سوق الصين مصدرا أساسيا من مصادر النمو للولايات المتحدة. تصور على سبيل المثال ماذا يمكن أن يحدث للمزارعين الأمريكيين، إذا توقفت الصين عن استيراد فول الصويا واللحوم منهم؟ وماذا يمكن أن يحدث لشركة بوينغ الأمريكية، التي تحصل على إيرادات سنوية من السوق الصينية بقيمة 4 مليارات دولار؟ وماذا يمكن أن يحدث لشركة مثل، أبل لو أغلقت الصين سوقها، وتحولت إلى منتجين محليين، أو إلى آخرين من كل أنحاء العالم؟ أبل حصلت على إيرادات من السوق الصينية عن الربع الأول من عام الحالي 2020 تعادل نحو 15% من كل إيراداتها من أسواق العالم بما فيها السوق الأمريكية.
ورغم قوة المركز الإنتاجي والتجاري للصين فإن عملتها ضئيلة القوة من حيث استخدامها لتسوية مدفوعات التجارة والاستثمار. وبينما الدولار ما يزال يسيطر على نحو ثلثي المعاملات في العالم، فإن نصيب اليوان الصيني يبلغ أقل من 2%. في صناعات التمويل والخدمات المالية والتأمين والتقييم الإئتماني، ما تزال الصين قزما صغيرا بجانب العملاق الأمريكي، لكن دوام الحال من المحال، إذ أن الصين تطور هذه الصناعات بسرعة، وأصبحت في الشهر الحالي أول دولة في العالم تستخدم عملة رقمية في تسوية المعاملات اليومية العادية من طلبات الشاى والقهوة إلى مشتريات السيارات الفخمة والسلع الثمينة مثل المجوهرات. ومع ذلك فإننا نعود إلى التأكيد أن الاقتصاد وحده لا يصنع قوة عظمى. ونظرا لأن الولايات المتحدة تستهلك طاقتها في حرب دون كيشوتية ضد الصين، بينما الصين تواصل اختراق الحواجز، فإن الولايات المتحدة ستفشل في حربها الاقتصادية على الصين مهما كان السيناريو المفترض الذي تأمل الولايات المتحدة إن يحقق لها الانتصار.
كذلك فإن الصين وإن كانت تتفوق من حيث الحجم على الولايات المتحدة، إلا نها أقل منها بكثير من حيث القدرات النوعية. الولايات المتحدة تنفق على قواتها المسلحة ما يعادل أربعة أمثال ما تنفق الصين. الإنفاق على الصحة للفرد في الولايات المتحدة يزيد عن مثيله في الصين بمقدار 17 مرة. قيمة الناتج المحلي للفرد في الولايات المتحدة حتى الآن تزيد عن ستة أمثاله في الصين. نصيب الجامعات الأمريكية في قائمة أفضل 100 جامعة في العالم يزيد عن الصين بمقدار 7 مرات. معدل التسجيل للدراسة الجامعية في الولايات المتحدة أعلى منه في الصين بمقدار مرتين تقريبا رغم الفارق الهائل في عدد السكان. كل هذه المؤشرات وغيرها تبين أن هستيريا الفزع الأمريكي من الصين لا أساس لها، وأن الولايات المتحدة ما يزال في إمكانها تطوير نمط من العلاقات التعاونية مع الصين بدون حروب باردة او ساخنة. حقيقة الأمر الآن هي أن الولايات المتحدة تخسر أمام الصين بسبب الحرب الباردة وليس العكس. في العام الماضي، وبسبب الحرب التجارية انخفضت المبادلات التجارية بين الطرفين بنسبة 7.2% عن عام 2017، لكن الفائض التجاري للصين بلغ 345.6 مليار دولار في العام الثاني من الحرب التجارية. كما انخفض التفوق النسبي للولايات المتحدة من 70% إلى 68%.
خلاصة القول إن الولايات المتحدة لن تنجح في عزل الصين، وأن هستيريا الحرب الباردة، المنتشرة بين الجمهوريين والديمقراطيين وما يقرب من 40% من المواطنين حسب أحدث استطلاعات الرأي، لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة، وأن نمط العلاقة بين الطرفين يجب أن يقوم على أساس التعاون وليس الصراع نظرا للتشابك بينهما.
إبراهيم نوار
القدس العربي