راوح معدل سعر سلة «أوبك» عند 47 دولاراً للبرميل خلال الأسبوع الماضي. ويذكر ان أسعار النفط انخفضت بسرعة منذ أوائل الشهر الجاري بسبب زيادة الامدادات وارتفاع قيمة الدولار. وبالفعل، فقد تدهور معدل سعر النفط في أوائل آب نحو 25 في المئة عن معدله في أواخر حزيران (يونيو) الماضي.
يشكل التدهور الحالي للأسعار الانهيار الثاني خلال سنة واحدة تقريباً. فقد بدأ الانخفاض السعري الأول في حزيران 2014 ، لكن صُحح المستوى السعري بعد أشهر ليرتفع موقتاً الى نحو 65 دولاراً للبرميل، لينخفض ثانية وبسرعة الى نحو 40 -50 دولاراً، اي نصف المستوى الذي استقر عليه لمدة ثلاث سنوات متتالية. فما هو المعدل السعري الممكن توقعه خلال الفترة الحالية؟ وهل مسلسل الانخفاضات السعرية هو أمر عابر خلال المرحلة الحالية، وهل يمكن لزيادة الطلب تصحيح مستوى الأسعار لمعدلات أعلى، والى أي فترة ممكنة؟ ام ان هناك عوامل أساسية جديدة أخذت تؤثر سلباً في أسعار النفط ، وان أثرها سيطول؟
تمر صناعة الطاقة عموماً في تجربة انتقالية. ففي قطاع النفط مثلاً، هناك الزيادة الملحوظة في الامدادات، بخاصة من النفوط غير التقليدية ( النفط المضغوط والنفط الصخري ونفوط أعماق البحار). وازدادت بشكل ملحوظ امدادات النفوط غير التقليدية هذه، وأخذت تضغط مباشرة على الأسواق النفطية العالمية. لكن امدادات النفط غير التقليدية لها وجهان: الأول يدفع بزيادة مستمرة في الامدادات النفطية العالمية من خلال توسع مجال الاكتشاف والبحث عنها من دولة الى أخرى والتحسين التدريجي للتقنية. والثاني هو ان كلفة اكتشاف وانتاج هذه الامدادات غير التقليدية عال مقارنة بالنسبة لكلفة انتاج النفوط التقليدية (معظم نفوط «أوبك»)، حيث ان معدل كلفة هذه النفوط الجديدة يتراوح عموماً ما بين 40 و70 دولاراً للبرميل، مقارنة بنحو 5-25 دولاراً لبرميل النفوط التقليدية.
هذا يعني، ان تكاليف الامدادات غير التقليدية على رغم زيادتها وتحسن تقنيتها تدريجاً، ستضغط على الأسعار كي تستطيع الشركات المعنية تحقيق الأرباح المرجوة. كذلك، وفي الوقت ذاته، فان انخفاض الأسعار للمستهلكين ، في حال عدم فرض الحكومات ضرائب جديدة على النفط الخام المستورد او على المنتجات البترولية في الأسواق المحلية، سيدفع الى زيادة الاستهلاك.
لا يمكن الاستهانة بالكلفة العالية لاستكشاف النفوط غير التقليدية بانواعها المختلفة وانتاجها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت شركة «رويال دتش شل» العملاقةفي أواخر الشهر الماضي نتائج اعمالها خلال الربع الثاني من السنة. وأعلنت ان أرباحها خلال الفترة المذكورة تقلصت الى نحو 3.8 بليون دولار مقارنة بنحو 6.1 بليون للفترة ذاتها من عام 2014. كما أعلن رئيس الشركة التنفيذي، بن فان بردن، في مؤتمر صحافي، ان الشركة ستخفض استثماراتها لاكتشاف حقول جديدة وتطويرها ، كما انها ستسغني عن خدمات نحو 6500 موظف وعامل لديها. لكن، على رغم ذلك، ستستمر «شل» في الاكتشافات في مياه القطب الشمالي. وصرح بردن لوسائل الاعلام، ان الشركة مصممة على استمرار العمل في القطب الشمالي، على رغم صعوبة الاستكشاف والانتاج من هذه المنطقة، بسبب زيادة الحيطة لتجنب اي كوارث بيئية، ناهيك عن البرد القارس طوال أشهر السنة. وأضاف «ان احتياطي حقل النفط الذي تعمل عليه الشركة في مياه القطب الشمالي بالقرب من ولاية ألاسكا، يفوق حجمه بمرات أكبر التركيبات الجيولوجية في خليج المكسيك، ما يعني انه كبير جداّ». ولكنه أضاف ان الشركة، نظراً الى الصعوبات في الانتاج من القطب الشمالي، لا تتوقع البدء به من هذا الحقل قبل عام 2030.
تدل الرسالة التي أراد رئيس إحدى الشركات النفطية العملاقة توجيهها على ان الاستغناء عن الآلاف من الموظفين وتقليص الاستثمارات في اكتشاف حقول جديدة وتطويرها، يعني ان الشركة ستعمل خلال الفترة المقبلة في ظل أسعار منخفضة (من دون تحديد المستوى). لكن اصرار ادارة الشركة على تطوير حقل عملاق على مدى ما لا يقل عن عقد من الزمن ومع تكاليف باهظة في بيئة صعبة وأسعار منخفضة، يشير الى ضرورة الوصول عاجلاً أم آجلاً الى مستوى أكثر واقعية للأسعار، كي تستطيع «شل» وغيرها من الشركات المنتجة للنفوط غير التقليدية، التوفيق بين التكاليف الباهظة التي تتحملها والأرباح الممكن تحقيقها.
من ناحية أخرى، تواجه الدول المصدرة الاعضاء في منظمة «أوبك» المرحلة الانتقالية الراهنة، بالتفاؤل في زيادة الطلب النفطي على المدى البعيد، بخاصة من خلال النمو الاقتصادي العالي وزيادة عدد السكان في الدول الناشئة (الصين والهند والبرازيل، وكوريا الجنوبية وجنوب افريقيا).
في الوقت ذاته تتابع المنظمة التطورات العلمية الجارية في مجال السيارات الهجينة، الكهربائية منها او الشمسية. فهذه السيارات المحدودة التوزيع حالياً، بدأت الولوج تدريجاً في الأسواق العالمية. وعلى رغم انها لا تشكل تحدياً مهماً للسيارات التقليدية في سوق المواصلات العالمي، الا انها بدأت تشكل تحدياً مستقبلياً لأهم سوق للطلب على النفط، اي قطاع المواصلات.
توفر المرحلة الانتقالية فرصة للدول النفطية العربية، للمبادرة باصلاح الاقتصاد الوطني ومحاولة فك الاعتماد الكلي تقريباً على الريع النفطي. لقد دعى الاقتصاديون العرب، بل المسؤولون في المنطقة، منذ عقود، الى البدء بإصلاحات اقتصادية. لكن الاعتماد الكلي والواسع على النفط ، أدى إما الى تأخير المبادرات الإصلاحية، الاقتصادية والسياسية أو التخلي عنها عندما تتحسن الأسعار لاحقاً. ذلك ان الغموض في الأسواق النفطية، يتطلب تبني هذه الاصلاحات.
الحياة