إضافة إلى استمرار الصراع الأساسيّ في سوريا، بين النظام السياسي وقوى المعارضة، والذي أدى استعصاؤه واستفحاله إلى تحوّله إلى التهاب موضعيّ محلّي وعربيّ رهيب ما لبث أن انداح حول العالم، وجذب أطرافا إقليمية وعالميّة للتدخل، فقد تفرّعت عن «المسألة السورية» الملتهبة مسائل عديدة مضيفة عناصر معقدة ومتداخلة.
تستمر هذه القضايا الفرعيّة في الالتهاب من درعا المهددة بمجزرة من قبل النظام نتيجة التوترات الشديدة القائمة فيها، إلى إدلب، المحافظة التي لا تزال خارج سيطرته، وصولا إلى الشمال الغربيّ حيث تعقد القوى الكرديّة المختلفة سياسيا اجتماعات في القامشلي للتنسيق والتوحد بعد ضغوط شديدة مارستها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على الجهات القريبة من تركيا، كما تستمر الدوريات الروسيّة ـ التركية على خط الطريق السريع إم 4، وتعاود الميليشيات المحسوبة على إيران تعزيز مواقعها بدماء جديدة عراقية وأفغانية، وتستمر إسرائيل في مطاردة هذه الميليشيات ضمن خططها لإبعادها من سوريا.
وكي تكتمل الكوميديا السوداء لهذه المشهدية السورية نجد أطراف العائلة الحاكمة التي كانت سبب ابتلاء البلاد بكل هذه الكوارث مشغولة بالصراع على الثروة المنهوبة، والتي كان الخلاف بين الرئيس السوري بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف آخر فصولها وأكثرها دراميّة.
وكما أن تفاصيل كل ما يجري في سوريا سياسيّ بقدر ما هو عسكري وأمنيّ وماليّ أيضا، وله دائما تداخلات محلّية وخارجية، فقد ربطت تحليلات النزاع الماليّ المذكور بالعلاقة الوطيدة التي قام والد مخلوف، محمد، وشقيقه حافظ، بتأسيسها مع الروس، وبحث الكرملين في قابلية الأخير أن يكون البديل لبشار الذي أصبح مرفوضا دوليّا، ومتهما بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما جعل التخلّص من القوّة الماليّة والسياسية للعائلة أمرا محتوما، تلعب فيه أسماء الأخرس، زوجة بشار، الطامحة لتوريث ابنها حافظ بشار الأسد، دورا ملحوظا، وهو ما ينعكس أيضاً توتّرا مكتوما مع شقيق بشار، ماهر الأسد، الذي فقد شريكا أساسيا في مخلوف، كما أنه أحس طبعا بأن معركة التوريث يمكن أن تستهدف نفوذه عاجلا أو آجلا.
وفيما تعطي هذه النزاعات أرجحية التحكيم والتحكّم لروسيا، التي وجدت صيغة تعاون (ولو اضطرارية) مع تركيا، في الوقت الذي تقبل على مضض بالوجود العسكري الأمريكي في الشمال الغربي، وتغض النظر عن عمل تل أبيب على استهداف القوات الإيرانية، صار مفهوما هنا لماذا تصاعد الحديث عن «ديون» سوريا لإيران، مع إشارة النائب الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، إلى أن بلاده أنفقت 20 إلى 30 مليار دولار على حماية النظام السوري، وأنه يجب استعادة «أموال الشع
الإيراني التي أنفقت هناك.
تلعب الأزمات الماليّة التي تعاني منها الأطراف المتدخّلة في الجغرافيا السورية دورا بالتأكيد في توجيه بوصلة السياسات والتحالفات والصراعات فيما بينها، كما أنها تنعكس بشكل مباشر على عائلة الأسد التي تريد، من ناحية، الحفاظ على خطّ السلالة الحاكمة، وتريد، من ناحية أخرى، مراكمة الأموال والثروات بشكل مركزيّ، بعد أن كانت موزعة بالوكالة ضمن عائلة مخلوف وعائلات أخرى.
بقدر ما يبدو صراع العائلة الحاكمة في سوريا متناسبا مع الجو العربيّ والعالميّ واتجاه مركزة السياسة والاقتصاد بقدر ما يبدو مقامرة يمكن أن تؤدي للخسارة في الوقت الذي تنفتح فيه الخزائن لمراكمة الأرباح، ففي عالم القوة الغاشمة للاقتصاد والسياسة كل شيء مباح، ومن يربح كل شيء قد يخسر كل شيء.
القدس العربي