سوزان شيراك وضعت عنواناً معبّراً لكتابها عن الصين: “القوة العظمى الهشّة”. وردود الفعل عليه جاءت معبّرة أكثر. الأميركيون قالوا: “ليست هشّة”، والصينيون قالوا: “ليست قوة عظمى”. أميركا رأت في الصعود الصيني خطراً على موقعها، فدفعها الخوف إلى المبالغة في قوة الصين والاقتراب من “فخ ثوسيديدس” والتفكير في حرب، والصين حفظت وصية دينغ شياو بينغ “خبّئ قوتك وانتظر وقتك”. فهي تبني قوتها في هدوء، وتعرف أن وصولها إلى مرتبة الاقتصاد العالمي الثاني بعد أميركا لا يزال ناقصاً، لأن الدخل السنوي للمواطن الصيني عام 2019 بلغ 4.334 دولاراً أي أقل من دخل الأميركي بعشر مرات، ولا صالح لها في حرب مع أميركا، بحيث يقول عميد معهد العلاقات الدولية يان شو تونغ إن “عالماً ثنائي القطبية من أميركا والصين لن يكون عالماً على حافة حرب”. لكن روب جويس، مسؤول الأمن السيبراني في البيت الأبيض سابقاً يرى أن “روسيا إعصار يهدأ بتعطيل القوة الأميركية أو أنظمة التواصل، والصين علم بيئي حراري يحوّل بالتدرّج المناخ لصالحها عبر بناء الشبكات التي يعتمد العالم عليها”.
حسابات أميركا الاستراتيجية كونية واسعة تتجاوز الكرة الأرضية إلى الفضاء، وحسابات الرئيس دونالد ترمب ضيقة: التجارة، النرجسية وما يخدمه في ربح الانتخابات. وحسابات الصين متدرّجة: لا اندفاع حالياً لأخذ موقع أميركا على قمة العالم. لكن “الحلم الصيني” كبير، بحسب الرئيس شي جينبينغ لأخذ “مركز المسرح” العالمي. استراتيجية 2025 لتطوير صناعة “التكنولوجيا العالمية” والمعيار الصيني عام 2035 لتصبح الصين المسيطرة على القوانين التي تحكم مستقبل التكنولوجيا، لكن الاهتمام المباشر هو حرمان أميركا من مواقعها في المحيط الهادئ وكل الجوار الصيني.
وتكشف “نيويورك تايمز” عن أنّ أميركا خسرت في مواجهة الصين حول تايوان في 18 لعبة حرب. وهي صارت وراءها في براءات الاختراع في مجال الطاقة، إذ لها 100 ألف براءة اختراع وللصين 150 ألف براءة اختراع، وأقل ما رآه وزير الخارجية السابق جون كيري هو أن الصين “قوة طاقة عظمى” وأحدث ما عملت على تطويره هو صنع صواريخ “قاتلة لحاملات الطائرات”.
واللعبة الآن هي حرب باردة جديدة أصعب من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي وأشدّ تعقيداً. فالتداخل الاقتصادي كبير بين أميركا والصين. بكين استوردت من سيلكون فالي رقائق كمبيوتر بـ300 مليار دولار، التجارة بين البلدين في حدود ملياري دولار يومياً، الاستثمارات المتبادلة كبيرة، والاكتتاب الصيني بسندات الخزينة الأميركية يصل إلى ترليون دولار، و97 في المئة من الأنتيبيوتيك الأميركي يُصنع في الصين، كذلك معظم سلع “آبل”. وإذا لم تنضم أوروبا إلى أميركا، وهذا ليس وارداً، فإنّ الحرب الباردة تؤذي الطرفين والحرب الحارة كابوس لهما.
التحالفات رصيد لواشنطن، وحلفاء بكين قلّة، إذ إنّ “الصينيين ليسوا أليفي التجربة مع كونهم حلفاء ولم يكن لديهم وزير خارجية حتى القرن التاسع عشر”، كما قال الدكتور هنري كيسنجر في كتاب عن الصين. لكن ترمب عمل كل جهده لارتكاب أكبر عدد من الأخطاء، بما جعل حلفاء أميركا يفقدون الثقة بها. وحسب استطلاع “بيو”، فإن 70 في المئة في 25 بلداً لا يثقون بأن ترمب سيمارس “السياسة الخارجية الصحيحة”. لا بل إن ستيفن مور، وهو مستشار اقتصادي لترمب، يرى أن الرئيس الأميركي كمن ضربه نيزك.
والصين بالطبع في مشكلة مع العالم، لا فقط مع أميركا، يصعب الهرب منها بسبب كورونا. وهذا ما يراهن عليه ترمب الذي يريد محاكمات وتعويضات على أساس أنّ المسؤولين الصينيين تركوا الفيروس ينتشر قبل أن يعترفوا بوجوده بسبب الحسابات السلطوية للحزب الشيوعي. وفي كتاب جديد للكاتبة الصينية فانغ فانغ تحت عنوان “يوميات ووهان: برقيات من مدينة في الحجر”، فإنّ المؤلفة تسجّل ما جرى في مدينتها حيث نشأ الفيروس، وهي تروي أنه حتى بعد الوقت الذي انقضى بين اكتشاف كورونا والاعتراف بوجوده، فإنّ السلطات قالت لأهل المدينة: “الفيروس ليس قابلاً لنقل العدوى بين البشر، ومن الممكن السيطرة عليه بسهولة، فلا تقلقوا”. أما الآن، فإنّ الرئيس شي جينبينغ يتحدث عن “حرب الشعب” ضد كورونا. وهو يشدّد القبضة على هونغ كونغ، مدركاً خطورة الحرية النسبية في المدينة المشمولة باتفاق عنوانه “بلد واحد ونظامان”، وخطورة استخدام الحل العسكري، فضلاً عن أنه يواجه مطالبة عدد من البلدان النامية بتأجيل السداد أو بالإعفاء من القروض الصينية التي بلغت 520 مليار دولار. والمشكلة مزدوجة: إذا شدّ، يخسر الأصدقاء، وإذا أرخى، يخسر المال. وما تفتقده الصين هو “القوة الناعمة” التي قادت أميركا إلى ربح الحرب الباردة مع موسكو.
لكن اللعبة لها ضوابط داخل أميركا والصين، إلى جانب مساعي التهدئة الخارجية ورأس الحكمة في الصين هو المثل القائل: “ما لا تستطيع تجنّبه، رحّب به”.
رفيق خوري
اندبندت عربي