مع اندلاع موجة احتجاجات جديدة منتصف شهر مايو/أيار الماضي في محافظة دهوك التابعة لإقليم كردستان العراق، نتيجة عدم دفع مرتبات موظفي الإقليم منذ ثلاثة أشهر، تجدد النزاع من جديد بين أربيل وبغداد، إذ حاولت حكومة الإقليم أن تلقي المسؤولية على الحكومة الاتحادية، وبالتزامن مع سياسة القبضة الحديدية التي واجهت بها قوى الأمن الكردية حركة الاحتجاج، عبر حملة اعتقالات طالت العشرات من الناشطين المدنيين، حملت حكومة الإقليم هذه المرة مطالب إلى الحكومة الاتحادية، أقل ما يمكن أن توصف بها أنها غريبة، بل مضحكة.
ولطالما كانت العلاقة بين بغداد وأربيل بعد 2003 متشنجة ومتوترة لأسباب عدة، يقف في مقدمتها المشاكل الاقتصادية والالتزامات المالية بين الطرفين، إذ كان موقف الحكومة الاتحادية قائما على، مطالبة حكومة الإقليم بتسديد ما بذمتها من التزامات مالية للخزينة المركزية، وعندها فقط يكون من حق حكومة الإقليم أن تطالب حكومة بغداد والبرلمان الاتحادي، بأن يقر صرف حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية، لكن جواب حكومة الإقليم الدائم كان التغاضي عن واجباته، والمطالبة بالحقوق، واتهام حكومة بغداد بالتقصير في صرف مستحقات الإقليم من الموازنة الاتحادية، وهكذا سارت موجات الصراع بين ادعاء وإنكار بين الطرفين.
الكل يتذكر أزمة استفتاء انفصال الإقليم عن العراق في سبتمبر/أيلول 2017، حينما وصل التوتر بين المركز والإقليم الى حافة الاقتتال العسكري، عندما اجتاحت القوات الحكومية المناطق المتنازع عليها، التي ضمتها حكومة الإقليم بفرض سياسة الأمر الواقع على بغداد، إبان أزمة سيطرة عصابات تنظيم «الدولة» (داعش) الإرهابية على مساحات واسعة من شمال وغرب العراق. وفي ظل تشدد حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق، من مسألة الانفصال الكردي، ونتيجة الدعم الإقليمي والدولي، الذي حظي به العبادي، استطاع السيطرة على الوضع المتوتر، وأجبر حكومة الإقليم على العودة إلى حجمها الطبيعي (في ما يعرف بحدود الخط الأزرق الذي حددته الأمم المتحدة) في ظل قوانين الدولة الفدرالية، وقبلت حينها أربيل صاغرة بسلطة الحكومة المركزية على عائدات البترول، والمنافذ الحدودية، وبقية الجبايات الكمركية، والضريبة التي تتم في الإقليم وتسديدها للخزينة المركزية، بالمقابل قدّم العبادي تعهدا بدفع مستحقات الاقليم من موازنة 2018، إذا التزم الكرد بهذا الاتفاق. لكن حكومة الإقليم سرعان ما تملصت من تعهداتها، وطالبت الحكومة المركزية بدفع مستحقات مرتبات موظفيها، فقبلت بغداد بذلك على أن يتم الدفع مباشرة مثلما يتم الامر في باقي محافظات العراق، ومع الكشف على سجلات الموظفين ظهرت ملفات الفساد المليارية في ما يعرف بالموظفين الوهميين (الفضائيين) الذين تنهب مستحقاتهم القوى السياسية المتنفذة في كردستان، من رجال الحزبين الكبيرين، ما أعاد الأزمة بين الطرفين الى مربعها الأول.
شهدت حقبة حكومة عادل عبد المهدي، الذي وصل إلى سدة رئاسة الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2018 تحسنا ملحوظا في العلاقات بين بغداد وأربيل، إذ تم الاتفاق على إنهاء الأزمة، كما صوّت البرلمان العراقي، على الموازنة الاتحادية، وتضمن الأمر إعادة صرف حصة إقليم كردستان، التي لم يحصل عليها في موازنة عام 2018، وتضمن الأمر دفع مرتبات جميع موظفي الإقليم، على أن يشمل ذلك مقاتلي قوات البيشمركة الكردية، وهذا أمر كان موضع خلاف لسنوات طويلة بين الإقليم والمركز. في المقابل تضمن اتفاق حكومة عبد المهدي مع الكرد تسليم الإقليم 250 ألف برميل من النفط ينتجها يومياً، إلى شركة تسويق النفط العراقية «سومو» المتخصصة بتصدير النفط العراقي. علما أن حجم صادرات كردستان المعلن هو 500 ألف برميل في اليوم، أما المخفي فربما وصل إلى أكثر من مليون برميل يوميا، وذلك ما أشار له دان بروليت وزير الطاقة الأمريكي منتصف فبراير/شباط، في اجتماعه مع رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، عندما اشار إلى ذلك بقوله، «أعتقد اليوم أننا نحتفل بالمعجزة، معجزتكم أنتم، ولمن لا يعرفون عن أي معجزة أتحدث، فإن الكرد محاطون باليابسة، وهم في صميم هذه المنطقة، لكنهم يصدرون النفط أكثر من ليبيا اليوم».
حملت حكومة إقليم كردستان مطالب إلى الحكومة الاتحادية، أقل ما يمكن أن توصف بها أنها غريبة
وعلى الرغم من التزام حكومة عبد المهدي بتعهداتها تجاه الإقليم، وصرف مستحقاته، لكن بالمقابل تخلفت حكومة بارزاني عن تنفيذ الجزء المتعلق بها، إذ صرحت وزارة النفط العراقية رسميا، بأن «أربيل لم تسلم بغداد عوائد النفط المصدر من قبلها، رغم إقرار الموازنة مطلع العام الحالي، ومنح الإقليم حصته المالية منها، بناءً على اتفاق يقضي بأن يسلم الأخير في المقابل عوائد 250 ألف برميل نفط يتم تصديره يومياً إلى تركيا». في مطلع شهر مايو الماضي، زار وفد كردي بغداد برئاسة نائب رئيس حكومة إقليم كردستان قوباد طالباني، للتفاوض مع حكومة الكاظمي، لإيجاد حل للأزمات الاقتصادية والمالية، والمناطق المتنازع عليها، وبدل اعتراف المفاوضين الكرد بتقصيرهم بتسديد ما بذمتهم للحكومة المركزية من أموال النفط الذي لم تسدد أمواله منذ سنوات، حمل الوفد الكردي مطالب غريبة عجيبة، من يقرأها يحس بأنها شروط تفاوض بين دولتين، وليس تفاوضا بين اقليم وحكومة مركزية، إذ طالب الكرد حكومة الكاظمي بمبلغ 400 مليار دولار، وقدموا جداول ووثائق حول المبالغ المالية المستحقة للإقليم على حكومة بغداد، إذ تضمنت تسديد تعويضات عن «الأضرار الناتجة عن جرائم الأنظمة السابقة المرتكبة في إقليم كردستان، ابتداءً من عام 1963 وصولاً إلى عام 2003، والتي بلغت إجمالاً 384.7 مليار دولار عن خسائر بشرية ومادية وبيئية، والإهمال المتعمد للبنية التحتية»، وأضافوا لها مطالب تمثلت في «أن حكومة إقليم كردستان صرفت 7 مليارات دولار كتكاليف لإيواء النازحين واللاجئين من عام 2014 إلى 2019»، كما تضمنت مطالب الكرد الغرائبية مصاريف عن تأمين الوقود لتوليد الكهرباء في كركوك للفترة من عام 2011 إلى 2020. فما كان من حكومة بغداد إلا ان ترد بالمثل، وتوجه إلى الوفد الكردي الاتهام، إذ أنها أجرت تحقيقا حكوميا استمر منذ 2014 ونشرت بعض وثائقه في الإعلام العراقي، أثبت أن اقليم كردستان ألحق بالحكومة الاتحادية أضراراً تقدر بأكثر من 138 مليار دولار، وعلى حكومة الإقليم تسديد ما بذمتها من ديون للحكومة المركزية، وتوقفت المفاوضات عند هذا الحد مع عدم التوصل الى حلول.
وإذا كانت حكومة الإقليم تبيع يوميا اكثر من مليون برميل نفط، من دون موافقة الحكومة المركزية، ومن دون توريد أموال بيع النفط للخزينة الاتحادية، وفي الوقت نفسه، لا تدفع مرتبات موظفي الإقليم بشكل منتظم، إذ لم تدفع المرتبات لهذا العام منذ شهر فبراير، إذن يمكننا أن نتوصل إلى استنتاج واحد فقط، لما يحدث، وهو أن حكومة الإقليم، والحزبين الكبيرين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، وزبانيتهم هم من يقومون بسرقة المليارات من أموال حكومة الإقليم، ويتركون المواطن الكردي يعاني الجوع والبرد والعوز والمرض، وإذا تجرأ أحد ما وفتح فمه احتجاجا على ديكتاتورية حكومة كردستان، فإن مصيره الاغتيال او التصفية، أو في أحسن الأحوال الزج في المعتقلات.
في تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش»| الأخير الصادر حول تغطية حركة الاحتجاجات التي اندلعت في دهوك يوم 16 مايو الماضي، جاء فيه «دقّت حكومة إقليم كردستان مؤخرا مسمارا جديدا في نعش حرية التعبير في العراق، عبر اعتقال العشرات، لمنع تظاهرة كان مخططا لها. قال صحافي ومعلمان من مدينة دهوك في إقليم كردستان العراق، إن موظفي حكومة الإقليم، ومنهم المعلمون، لم يحصلوا على مرتباتهم منذ فبراير. وتزعم حكومة الإقليم أن ذلك يعود إلى هبوط أسعار النفط والانهيار الاقتصادي الناتج عن فيروس كورونا. قضية الرواتب المتأخرة مستمرة منذ 2015، وتؤدي إلى احتجاجات اعتادت السلطات الكردية أن تواجهها بالاعتقالات التعسفية». فهل سيستطيع مصطفى الكاظمي عند هذا المنعطف الخطير أن يقف موقف سلفه حيدر العبادي، الذي تصدى لعنجهية تصرفات مسعود بارزاني، التي أوقفها عند حدها بقراراته الحازمة؟ وهل سيدعم الأمريكيون والإيرانيون خطوات الكاظمي المتصدية لتمادي الكرد ومطالبهم الغرائبية وإيقاف تنمرهم عند حده؟ أم سيترك الرجل في مواجهتهم لوحده، وبالتالي سيعرف الجميع معدن الرجل؟ هذا ما ستكشفه الاحداث المقبلة.
صادق الطائي
القدس العربي