التنين الصيني صبور، لكنه يضرب بقسوة إذا بدا محشوراً. تعلَّم من كونفوشيوس أن من أركان الحكمة “بُعد النظر والحذر واحترام الطقوس” وأن “من يريد نقل جبل يبدأ بحمل حجارة صغيرة”. وتعلَّم من ماو تسي تونغ تحمّل المصاعب في المسيرة الطويلة “الكبرى” نحو النصر، ثم الانتقال من الرحابة في شعار “لتعش مئة مدرسة، لتنفتح مئة زهرة” الى القمع الشديد والإذلال في الثورة الثقافية. وتعلَّم من دينغ شياو بينغ “أن المهم ليس أن تكون القطة بيضاء أو سوداء بل أن تصطاد الفئران”. في شنغهاي ترك دينغ الطلاب المتظاهرين يرددون “ماركس لم ير مصباحاً كهربائياً، وانجلز لم ير طائرة، وهما لم يريا الصين”. وفي ساحة تيان آن مين سحق بالدبابات الطلاب المعتصمين المطالبين بالانفتاح السياسي، في موازاة الانفتاح الاقتصادي. واليوم يتعلَّم من شي جيبنغ المزيد من التشدد في سيطرة الحزب الشيوعي على المجتمع مع المزيد من الانفتاح الاقتصادي تحت شعار “اقتصاد السوق بخصائص اشتراكية”. لا بل يرى الطلاب أكثر تشدداً، بحيث يحتجون على “لا ماركسية الحزب الشيوعي”. ولم يكن خارج التوقعات بعد التحديات والتظاهرات الحاشدة في هونغ كونغ المطالبة حتى بالاستقلال، أن يشدد قبضته على المدينة.
عام 1997 تسلمت الصين هونغ كونغ من كريس باتن آخر حاكم بريطاني لها ضمن بروتوكول عنوانه ” بلد واحد ونظامان”. كانت هونغ كونغ “فرصة” بالنسبة الى النظام الشيوعي، فصارت اليوم “خطراً” في حساباته. وكان الرهان البريطاني الأميركي على استمرار البروتوكول الذي يضمن للمدينة الانفتاح السياسي والاقتصادي مهمة مستحيلة ينطبق عليها المثل الإنجليزي القائل “لا تستطيع أن تأكل الكعكة وتحتفظ بها في آن”. أما الفرصة، فإنها توظيف الاستثمارات الغربية الكبيرة في هونغ كونغ، والانفتاح في المدينة وعملها في خدمة الاقتصاد الصيني الصاعد.
وأما الخطر كما يقول تيان فيلدنغ المدير التنفيذي لمعهد أبحاث في بكين حول سياسة هونغ كونغ، “أن شي جيبنغ لا يرى المعترضين في هونغ كونغ مجرد دعاة للديمقراطية، بل كوسيلة في محاولة لإسقاط الحزب الشيوعي نفسه”. وهكذا اقر مجلس الشعب “قانون الأمن القومي” الذي طلبه الزعيم الصيني للسيطرة الكاملة على المدينة بقوة القانون بدل القوة العسكرية العارية التي حذَّر المحلل السياسي الصيني روكيانغ من أنها ستكون “انتحاراً سياسياً له آثار عاجلة”.
والسؤال هو: هل صارت الأولوية في بكين لمواجهة الخطر على توظيف “الفرصة” أم أن تطور الاقتصاد الصيني الذي أصبح الاقتصاد العالمي الثاني بعد الأميركي ألغى الحاجة الى تجربة هونغ كونغ حيث الصين كلها “هونغ كونغ كبرى”؟ هل تنسحب من الاستثمار في المدينة 300 شركة أميركية و434 شركة متعددة الجنسية؟ وماذا تفعل عقوبات جديدة مع الصين بعد العقوبات القديمة التي جرى فرضها رداً على مجزرة تيان آن مين وانتهت؟
ما جرى ليس نهاية اللعبة. لا في هونغ كونغ حيث من المتوقع أن تنتقل “ثورة المظلات” الى مرحلة اقوى؟ ولا في أميركا الداخلة في حرب باردة مع الصين قبل الاحتجاج على “قانون الأمن القومي”. ولا في بكين، حيث يقول الزعيم شي للمسؤولين: كونوا حذرين من “البجعات السود” ومن “المال الرمادي” ومن “وحيد القرن الرمادي” ومن فشل الحزب في منع الشباب من الخروج من مداره الأيديولوجي. فالتشدد يقود الى المزيد منه. وفي كتاب “مولوتوف يتذكر” يروي وزير الخارجية السوفياتي الراحل أن ماو قال له: أنا حزين لأن ستالين لم يوسع القمع والعنف، وان خروتشوف بقي حياً”. وأكثر الكتب قراءة عند كوادر الحزب الشيوعي بطلب من زعيمه هو كتاب الكسيس دو توكفيل” النظام القديم والثورة” الصادر عام 1856. لماذا؟ من اجل تعلم الدرس الذي سجله دوتوكفيل عن تحديات حكم فرنسا بعد شيء من البحبوحة. إذ “حين تصبح الناس أكثر ثراء تصير أيضا أكثر انتباهاً الى اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتثور”. والمفارقة كما سجلتها” الفايننشال تايمس” قبل سنوات هي” أن الشيوعية فرّقت بين الصين وروسيا والرأسمالية تجمع بينهما”.
رفيق خوري
اندبندت عربي