السلطة في إيران تتوزع بين ثلاث فئات رئيسية تشترك في المرجعية الخمينية. أي أنها تسيطر على البلاد تحت شعار العداء للغرب. وتأخذ بتوجيهات الولي الفقيه كمعايير للحكم والتقييم والعمل. التباين بين هذه الفئات هش جدا، وهو لم يبلغ ذلك الحد الذي تصوره بعض وسائل الإعلام، وكأنه تصدع حاد سيطيح بالنظام الحاكم خلال بضعة أشهر. ولكنه بات يرى بالعين المجردة، ويذكر بتلك السنوات التي سبقت “الثورة” التي جلبت الخميني إلى الحكم عام 1979.
وجه الشبه بين الحقبتين هو رياح التغيير التي بدأت تهب على البلاد نتيجة مراجعة الإيرانيين للأفكار التي جاءت بالخمينية إلى الحكم. لقد هرمت هذه الأفكار ولم تعد مقنعة أبدا. وهواجس الصدام معها تطرق بقوة عقول الأجيال الجديدة في البلاد.
حجج العداء للغرب التي ساقها الفرسان الأوائل للمعبد الخميني تداعت. وهذه المحاربة الدونكشوتية لأميركا لم تعد على الناس إلا بالفقر والاضطهاد. والخمينية التي فضلها الإيرانيون على التغريب قبل أربعين عاما، باتت اليوم عبئا ثقيلا عليهم يجب الخلاص منه لأنه ببساطة غير قابل للتقويم.
الفئات الثلاث للخمينية تدرك ضرورة التغيير في البلاد، ولكنها كأي سلطة مستبدة لن تقبل به إلا من الداخل. وتفضل إحداثه بنفسها لتكون ثورة بيضاء يخدعون بها الناس ويمتصون نقمتهم المتزايدة على نظام الولي الفقيه. هل هذه الفئات قادرة فعلا على تغيير يعيد إيمان الناس بالخمينية التي جاءت عبر “الثورة الإسلامية” عام 1979؟ إلى متى يمكن أن يصمد نظام الولي الفقيه كأسلوب حكم وإدارة، بعد كل ما لحق بإيران بسببه ونتيجة لأفكاره المهترئة؟
المحافظون يفضلون الشرق على الغرب، والجوار الآسيوي على التقارب مع الأميركيين والأوروبيين. ولكنهم يؤمنون بأن استمرار ولاية الفقيه يعتمد على قوة الفكرة الدينية للخمينية
الاتجاه الأقوى بين الفئات الثلاث للخمينية اليوم، هو الحرس الثوري الذي يؤمن بالقنبلة النووية كبيضة القبان، في علاقة إيران مع الخارج. يعتقد جهابذة هذا الاتجاه أن القنبلة ستتيح لطهران فرض شروطها في أي تفاوض مع الغرب أو الشرق. وسَتُقبَل هذه الشروط دون مقاومة من خصوم طهران.
رهان الحرس الثوري هو على الحرب التي لن تقع أبدا. فهم يعتقدون أن الأميركيين لا يريدون مواجهة مفتوحة مع إيران. وبالتالي مهما كانت الضغوط التي يمارسها الغرب والعالم على الخمينيين سياسيا واقتصاديا، يمكن احتواؤها والتعامل معها إلى حين امتلاك السلاح الذي سيضع الأمور في النصاب الصحيح من وجهة نظرهم.
يفضل الحرس الثوري التحالف مع الصين على أي دولة أخرى من الدول الكبرى حول العالم، فهي تشبه إيران التي يحبها الحرس في التعتيم والترهيب والاستغلال الذي تمارسه السلطة بحق شعبها. وتشبهها أيضا في سياسات التوسع والاعتداء على الجوار، ونشر الأزلام والأذرع في دول الجوار.
الفئة الثانية في القوى المتحكمة بإيران هم المحافظون الذين يمثلون الوجه الديني المتطرف للخمينيين. هؤلاء أيضا يفضلون الشرق على الغرب، والجوار الآسيوي على التقارب مع الأميركيين والأوروبيين. ولكنهم يؤمنون بأن استمرار ولاية الفقيه يعتمد على قوة الفكرة الدينية للخمينية، وليس على سلاح الحرس الثوري.
مازال المحافظون يتاجرون بأفكار “الثورة الإسلامية” ويجذبون الناس بوهم أحلامها التي لم تتحقق. فبعد أكثر من أربعين عاما من “الثورة” لم تتحول قيادة العالم الإسلامي إلى طهران، ولم يتوحد الشيعة حتى داخل إيران نفسها.
بتعبير آخر، يمكن القول إن نقطة الخلاف بين المحافظين والحرس الثوري اليوم تكمن في التبعية أو لنقل أحقية تمثيل النظام. فالمحافظون يعتقدون أن القوة العسكرية مهمتها حماية ولاية الفقيه التي يمثلونها. ولكن الحرس الثوري يعتقد أنه هو من يمثل الخمينية الحقيقية، ورجال الدين يجب أن يسخروا إمكاناتهم لإقناع الإيرانيين بصموده وقوته أمام الغرب “الشيطان”.
الركن الأخير في ثالوث السلطة الإيرانية هم الإصلاحيون، الذين يعتقدون أنهم يمثلون الخمينية بالصورة الثورية التي نشأت عليها عندما انتفض الشعب على نظام الشاه في سبعينات القرن الماضي. يرى الإصلاحيون في أنفسهم النموذج الصحيح الذي يمكنه أن يحافظ على ولاية الفقيه من خلال نصف مصالحة مع الغرب.
الفئات الثلاث للخمينية تدرك ضرورة التغيير في البلاد، ولكنها كأي سلطة مستبدة لن تقبل به إلا من الداخل. وتفضل إحداثه بنفسها لتكون ثورة بيضاء يخدعون بها الناس ويمتصون نقمتهم المتزايدة على نظام الولي الفقيه
بتعبير آخر إبرام هدنة طويلة الأمد مع الغرب تتيح للخمينيين فرصة ترتيب بيتهم الداخلي، والإمساك مجددا بكل مفاصل البلاد من دون عقوبات اقتصادية تثير نقمة الإيرانيين عليهم، وتحد من قدرتهم على دعم ميليشياتهم في الخارج.
نجح الإصلاحيون في هذه اللعبة عندما أبرموا اتفاقا نوويا مع الدول الست الكبرى عام 2015. ولكنهم لم يستمتعوا بهذا النصر كثيرا، وانهارت الهدنة التي كان يعول عليها الخمينيون لاسترداد سطوتهم المطلقة في البلاد.
تغيرت الإدارة الأميركية وجاء على رأسها من لا يحب أنصاف المصالحات. وبين ليلة وضحاها عاد الإصلاحيون إلى الفئة الأضعف والأقل نفوذا بين الخمينيين. جل ما بات يشغل بالهم اليوم هو البقاء على قيد الحياة في اللعبة السياسية، لعل العقد الجديد يحمل للبيت الأبيض مرة أخرى إدارة تقبل بنصف تسوية مع نظام الولي الفقيه.
لا تظهر المنافسة بين الفئات الثلاث للخمينية بشكل علني، أو مفضوح بتعبير أدق. ولكنها باتت أمرا واقعا يزداد حدة مع تردي الأوضاع في البلاد، وتمسك هذه الفئات بنظام ولاية الفقيه لإدارة الدولة.
ربما باتت بين هذه الفئات وهذا النظام وحدة مصير لا يتيح لأحدهما التخلي عن الآخر. ولكن أيا كان الدافع فإن الإيرانيين اليوم يسبحون في فلك مختلف تماما، ولن يلتقي أبدا مع هذا النظام ولا فئاته. فتجريب المجرب هو اجترار لخيبة وفشل لا ينتهيان في ظل الخمينيين.
بهاء العوام
الشرق اليوم