وُلدت عام 1961 أي قبل هزيمة 1967 بستة أعوام، ونحن الآن في الذكري الثالثة والخمسين للهزيمة، وأنا أقترب من سن الستين، أعرف كثيراً مما جرى أيام الهزيمة بحكم دراستي للعلوم السياسية في الغرب وقرأت الكثير من الوثائق الغربية وحتى الإسرائيلية عن حرب الأيام الستة في أرشيف الدول الغربية، ولكن الوثائق الوحيدة التي لم أطّلع عليها هي وثائق بلدي. ونحن في زمن الوباء، وأنا من الفئة القابلة للفناء في هذا العمر، وبهذا يمكن القول إن الإنسان عندنا قد يولد ويموت ولا يعرف شيئاً عما جرى في بلده في أحلك ظروفها، في هزائمها، أو حتى في انتصاراتها، إلا قليلاً.
فكيف لنا أن نقيّم هزيمة ليست لدينا معلومات مباشرة عنها سوى بعض شهادات من ضباط كانوا حول جمال عبد الناصر؟ أو من صحافيي تلك الحقبة في مثالهم الناصع محمد حسنين هيكل؟ بدايةً في معظم البلدان يُفرج عن الأرشيف كل ربع قرن أو أقل قليلاً لتتعلم الأجيال من أخطاء من سبقوهم من خلال دراسات منهجية في الجامعات ومراكز الأبحاث المتخصصة. وتلك هي الطريقة الأولى لتقدم المجتمعات من خلال التراكم المعرفي والقراءة النقدية للتاريخ، كلٌّ من منظوره وتطبيق منهجه العلمي.
هزيمة 1967 أصبحت أشبه بالفولكلور ومقولاته التي نرددها في كل ذكرى، شيء أقرب إلى العديد والنواح الجنائزي منها إلى القراءة النقدية الجادة، بالطبع باستثناءات نادرة. وأصبحت الكتابة عن الهزيمة مجرد طقوس سنوية أشبه بالذكرى السنوية التي يقيمها البعض لموتاهم. نذكر محاسن الموتى ولا نقترب من الحديث عنهم كتاريخ. وتقريباً معظم من حاربوا في 1967 هم الآن في عداد الموتى.
طقوس الهزيمة أدت إلى تنحي عبد الناصر عن الحكم وخروج الآلاف في الشوارع المصرية تطالبه بالتراجع. أعلن عبد الناصر مسؤوليته عن الهزيمة في خطاب التنحي، والجماهير التي خرجت تطالبه بالبقاء قبلت ضمنياً أنه المسؤول، ومن كانوا ضده شاركوا في تثبيت مقولة إن عبد الناصر كان سبب الهزيمة وما جاء من بعدها من بلاء، كانت ولا تزال مؤامرة اتفق أطرافها من المؤيدين الذين رأوا في عبد الناصر نصف إله، والمعارضين الذين رسموا ملامحه كنصف شيطان، جميعاً اختزلوا وطناً ونظاماً كاملاً ومجتمعاً في شخص رجل واحد، وهذا نوع من أنواع حفلات الزَّار الجماعية التي يغيب فيها الناس عن الوعي.
لا يستقيم للعقل أن سبب الهزيمة رجل واحد، وسبب البلاء رجل واحد، إلا في مجتمعات غير قادرة على النقد الذاتي الأشمل فتحيل كل أسباب المصائب إلى رجل واحد لتعفي نفسها من النقد ومن ثم المرور على شوك طريق الإصلاح.
قمة اتساع الأفق لدى البعض هو توسيع المسؤولية عن الهزيمة لتشمل عبد الحكيم عامر نائب القائد العام للقوات المسلحة، أو وزير الدفاع شمس بدران، أو قائد القوات الجوية الفريق صدقي محمود، إلى آخر القائمة.
نفس العقلية لم تتغير كثيراً سواء في النصر أو الهزيمة، الهزائم لا تُنسب إلى أشخاص وكذلك الانتصارات. زار شخصنة النصر والهزيمة مستمر، وهو نوع من تزييف الوعي والحقائق المستمر إلى اليوم، رغم وجود الآلاف من الصحف الورقية والإلكترونية، القنوات التلفزيونية العربية ووثائقياتها الكثيرة عن هزيمة 1967 وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح كل هذا مجرد سُحب وضباب يعمي عن الرؤية ولا يوضحها، ولذلك أسبابه التي تحتاج إلى مقال مستقل. ولكن كما كان الحال عسكرياً من سوء تدريب الجيوش في 1967 يمكن القول إننا أمام حالة من مخرجات سوء تدريب العقول على الأسس العلمية والمنهجية في الحديث عن التاريخ. فهذا المذيع أو تلك المذيعة، هذا الصحافي الذي تخرج في جامعات في ذيل التقييم العالمي للجامعات ليس لديه الأسس العلمية الكافية لتسجيل شهادات أو أحداث فاصلة في تلك الحرب. انتقاء الأحداث الكاشفة لتعميق الحديث عنه ولتوضيح السياق، ليست من أدوات الصحافي العربي سواء كان يعمل في الإعلام المرئي أو المكتوب، فالجميع يعمل في منظومة لا تكون الحقائق من أولوياتها، فالأساس عندنا الدعاية لا الحقائق.
أقرب الكتابات إلى الكشف، كانت كتب بعض القادة المصريين خصوصاً حول ما جرى مثل مذكرات الفريق محمد فوزي رئيس أركان الجيش خلال الحرب، وهي مذكرات فيها كثير من الدقة ولكن فيها أيضاً الكثير من الشخصنة في التركيز على الحرب الداخلية بين عبد الناصر وعامر كأساس للهزيمة، وكذلك مذكرات رئيس المخابرات أمين هويدي. أما من كتب السياسيين القريبين من عبد الناصر، فهناك كتاب هيكل المعروف بالانفجار والذي يهدف في النهاية لتبرئة ساحة عبد الناصر، وكتب عسكريين آخرين مثل عبد العظيم حماد وغيره كثيرون. ولكن كل هذا لا يسمح لنا بفهم علاقة الأجهزة والمؤسسات المختلفة بعضها ببعض في أثناء الحرب وطريقة اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسات.
كيف كانت تتصور القيادة العسكرية المصرية مثلاً مسرح عمليات الحرب؟ هل كانت الجبهة المصرية وحدها هي الأساس أم أن مسرح العمليات هو سوريا والأردن ومصر وفلسطين؟ وإذا كانت الضربة الجوية الأولى لإسرائيل كاشفة عن شيء عند ضرب القوات الجوية في العراق ومصر وسوريا والأردن في الساعات الثلاث الأولى من الحرب، فمسرح العمليات بالنسبة إليهم يشمل المشرق العربي كله.
نصف الجيش المصري الذي كان أفضل تدريباً وقوة وجاهزية للقتال كان منهمكاً في حرب الجبال في اليمن، بينما النصف الثاني الموجود في سيناء خلف قوات الأمم المتحدة لحظة قرر عبد الناصر سحبه في 15 مايو (أيار) 1967.
وكيف كان حال المجتمع والدولة في مصر قبل تلك الهزيمة؟ بينما كان الجيش الإسرائيلي يستدعي قوة الاحتياط من خريجي الجامعات والمعاهد، كانت قوة الاحتياط المصرية قادمة من القرى والنجوع بالجلباب ومعظمهم لا يجيد القراءة، حسب شهادات قادة الجبهة في سيناء في تلك الفترة… فلماذا لا نتحدث عن المجتمع الذي أنتج هؤلاء المقاتلين؟ كيف كان السياق المحلي والإقليمي والدولي، وهل كان هناك نظام قادر على فهم ما يحدث من حوله؟ وهل فهم شمس بدران ما يريد أن يقوله له السوفيات أيامها؟ تشير معظم الشهادات من خلال تلميحات مختلفة إلى أن الوضع الداخلي في مصر تعاني من معركة في قمة الهرم السياسي بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وأن الجيش كان لعامر والسياسة والإعلام لعبد الناصر. المدهش في هذه الكتابات رغم رسمها لصورة عبد الناصر الزعيم الكاريزمي الذي لا يُشقّ له غبار، وقائد العرب جميعاً، أنها وفي ذات الفقرة والجملة أحياناً تقول إن عبد الناصر كان مجرد بوق سياسي، وإن المسيطر الفعلي على الجيش كان المشير؟ فكيف يتحمل عبد الناصر كل الهزيمة رغم أنه كان معزولاً عن الجيش؟ ولماذا تنحى عبد الناصر إذا كان عبد الحكيم عامر هو المسؤول؟ التناقضات بين جملة وأخرى في كتاب واحد أو بين وثائقي وآخر تناقضات قد لا تستوقف الكثيرين منا وتدفعهم لبحث أعمق في سبب الانهيار.
حتى نظام عبد الناصر حاكَم عبد الحكيم في حياته وبعد مماته اتهمه بالفساد الأخلاقي وحفلات الرقص والشراب. فهل هذا يكفي لفهم الهزيمة؟ وهل كان موشي ديان المنتصر على الناحية الأخرى والذي ضاعف مساحة إسرائيل ثلاثة أضعاف في ثلاثة أيام ناسكاً متعبداً لا يشرب ولا يراقص النساء؟ كان الجنرال الإسرائيلي ذو الأصول الأوكرانية فيه كل الموبقات، حسب مذكرات ابنته يائيل، ولكنه كان جنرالاً حقيقياً صقلته الحروب من الحرب العالمية الثانية إلى حرب 1948 و1965 وبعدها 1967 ولم يكن مجرد صاغ أو رائد وفجأة رُفع إلى جنرال ثم مشير من دون أي تدريب أو تأهيل. محاكمة عامر أخلاقياً لا تفيدنا كثيراً في فهم ما جرى في الحرب.
في هذا المقال لن أتطرق إلى أسباب الهزيمة ولكن لتحفيز الشباب الباحثين لتبني مناهج بحث جديدة وخلاقة تساعدنا على المعرفة في ظل غياب أرشيف مصري وعربي لهذه الحرب.
ظني أن بداية الطريق هي تحسس قراءة الأوضاع الداخلية للدول التي شاركت في الحرب وفهم السياق العربي الأوسع.
فبينما كان العالم مشغولاً بالحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، لم نتطرق كثيراً وبشكل جاد إلى قراءة موضوعية للحرب الباردة والحامية العربية التي أدت إلى إرسال نصف الجيش المصري إلى اليمن. وظني أن هذا كان من أسباب الهزيمة الكبرى للجيش المصري وانسحابه من سيناء منذ أن دمر الإسرائيليون سلاح الجو المصري في ثلاث ساعات.
الحرب الداخلية في مصر بين عبد الناصر وأعضاء نظامه، وبين نظام عبد الناصر وأعدائه الداخليين والمستمرة حتى اليوم هي واحدة من الأمور التي لم تحظَ بتحليل جاد. فمنذ مجيء عبد الناصر إلى الحكم ومصر مشغولة بحروب داخلية كانت أهم من حربها مع إسرائيل؛ اتخذت أسماء مختلفة، آخرها مواجهة الإرهاب، كأنها حرب قُدِّر لمصر دخولها وعدم الخروج منها.
تحميل عبد الناصر وحده عبء هزيمة 1967 أمر لا يقبله العقل، فقد تعلمنا في مدارس التحليل السياسية وفي الجامعات أن التركيز على متغير واحد أو عنصر واحد كمسبب لكل شيء هو تحليل خاطئ إن لم يكن غبياً في أصله. عبد الناصر كان جزءاً من مجتمع ودولة ومؤسسات لا بد من قراءتها بطريقة نقدية، فالهزيمة لم تكن هزيمة لعبد الناصر ولكن كانت هزيمة نظام تعليمي وثقافي وتدريبي وحضاري كان عبد الناصر مجرد أحد مخرجاته. وللحديث بقية.
مأمون افندي
الش