كنتُ أتحدّث مع ابني ذي الخمسة عشر عاماً عن المظاهرات المتواصلة في العاصمة الأميركية واشنطن، وإصراره على المشاركة فيها من أجل إيصال صوته، والتعبير عن اعتراضه على الممارسات العنصرية التي يتعرّض لها الأميركيون من أصل أفريقي، ليس فقط على يد الشرطة، بل بوجه عام. وكان منطقه أن ما يقع من حوادث قتل متكرّرة لهؤلاء المواطنين ليست مجرد أحداث عابرة، ولكنها نمط ثابت يعكس نظرة بعض قطاعات المجتمع الأميركي لهم، باعتبارهم أقلّ شأناً وقيمة ومكانة منهم، وهو ما يجب تغييره.
هكذا يرى متظاهرون كثيرون مسألة جورج فلويد الذي قُتل في 25 الشهر الماضي (مايو/ أيار) دعساً تحت قدمَي ضابط شرطة أبيض (ديريك تشوفين) في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا الأميركية، وهي الحادثة التي أشعلت المظاهرات ليس فقط في الولايات المتحدة، بل أيضاً في جميع العالم من أقصى الشمال الأوروبي في أيرلندا، إلى أقصى الجنوب في نيوزيلندا، وذلك طلباً للعدالة ووقف المعاملة العنصرية والتمييز الذي تتعرّض له الأقليات السوداء في العالم، وخصوصاً في أميركا. لستَ في حاجةٍ لأن تكون أسود البشرة، لكي تشعر بما يتعرّض له هؤلاء السود، داخل أميركا وخارجها، من عنصرية وتمييز وامتهان. يكفيك فقط أن تشاهد المقطع الذي لفظ فيه فلويد أنفاسه الأخيرة، ورقبته مدعوسة تحت قدمي الضابط العنصري الذي لم يحرّك ساكناً أمام استغاثة فلويد، وعبارته الأخيرة “لا أستطيع أن أتنفس”.
لم تخرج المظاهرات دعماً لفلويد بحدّ ذاته، وهو قطعاً يستحق ذلك، بل احتجاجاً على العنصرية الكامنة في بنية النظام الاجتماعي الأميركي، التي يزيد عمرها على أربعمائة عام، منذ حطّت أول سفينة هولندية تحمل عبيداً أفارقة في مدينة جيمس تاون في ولاية فيرجينيا عام 1620، التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية، فقد أخذت أميركا ما يقرب من مائتي عام لإلغاء العبودية، وتحرير العبيد بعد انتهاء الحرب الأهلية، وذلك منتصف القرن التاسع عشر. كذلك أخذت نحو مائة عام حتى تلغي الفصل العنصري بين البيض والسود، مع ظهور حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ في منتصف القرن الماضي. ولكنها لا تزال تعاني من بقايا هذه الثقافة
“نخطئ حين نظن أن العنصرية باتت شيئاً من الماضي، على نحو ما بشّرنا به الحداثيون من سيادة العقل والحكمة على تصرّفات البشر وأفعالهم”العنصرية في مجالات القضاء والتعليم والصحة والخدمات والوظائف… إلخ. والأكثر وضوحاً، تعاطي بعض قطاعات الخدمة المدنية، ومنها الشرطة، مع الأميركيين من أصل أفريقي، حتى مع وصول باراك أوباما إلى السلطة، ليكون أول رئيس من أصول أفريقية، فقد كان هذا بمثابة الاستثناء وليس القاعدة، بل يعد من الأسباب الضامرة لصعود تيار المتطرّفين البيض، كرد فعل على ذلك.
تأخذك قدماك إلى ولايات الجنوب التي كانت تقاوم العبودية، مثل فيرجينيا وكارولينا الشمالية والجنوبية وتكساس ولويزيانا وآلاباما ونيوأورليانز وميرلاند وغيرها، فترى العنصرية واقعاً حيّاً، حتى وقتنا هذا، سواء من حيث مستوى المعيشة والفقر والسكن والخدمات، التي لا تقارن بمثيلاتها في ولايات الشمال. تقرأ وتشاهد عشرات المقاطع من سوء المعاملة التي يلقاها الأميركي الأسود من بعض رجال الشرطة، فتدرك أن الأمر ليس مجرّد حادث عابر هنا وهناك، ولكنه ثقافة متجذّرة ومتأصلة. لذا، ليس غريباً أن أكبر نسبة من المتسولين والعاطلين من العمل والمشرّدين هي بين الأميركيين الأفارقة. وليس غريباً أن أكبر نسبة وفيات من فيروس كوفيد – 19 هي أيضاً بينهم، خصوصاً في نيويورك، وذلك نتيجة ضعف الخدمات الصحية التي يحصلون عليها، بسبب انخفاض مستوياتهم المعيشية.
يستغرب بعضهم حين يرى المعاملة العنصرية والتمييزية تجاه المواطنين من أصل أفريقي في بلدٍ يدّعي مواطنوه أنه قائم على تحقيق الحرية والسعادة لكل من يعيش فيه. أو في ما اعتبره مؤرّخون بلداً بُنيَ على النقيض مما كانت تعانيه أوروبا من الأمراض والمشكلات الاجتماعية والسياسية والدينية، وخصوصاً اضطهاد الأقليات الدينية والإثنية والعرقية، وذلك في ما يُعرف دوماً بالحلم الأميركي! صحيحٌ أن شيئاً من هذا الحلم لا يزال حاضراً وموجوداً، ولكنه أصبح حلماً مشوهاً.
ويبدو أننا نخطئ حين نظن أن العنصرية باتت شيئاً من الماضي، على نحو ما بشّرنا به الحداثيون من سيادة العقل والحكمة على تصرّفات البشر وأفعالهم. وبقدر ما يشعر المرء بالسعادة، حين يرى التضامن الإنساني مع جورج فلويد، تصيبه الدهشة من أن هناك من البشر من لا يزال يعامل الناس وفق لون بشرتهم.
خليل العناني
العربي الجديد