في السادس من يونيو (حزيران)، لم تستعد انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) زخمها السابق، لكنها لم تسقط بالضربة القاضية، إلا أنها باتت مهددة بانحسارها أو حصارها بوباء طائفي بعد انحسار وباء كورونا، ففي ليل السبت، سددت المنظومة الحاكمة ضربتها الانتقامية الأولى، وأعادت رفع المتاريس بين أحياء العاصمة، مستعيدة لغة المحاور «شيعي – مسيحي» بين منطقتي الشياح وعين الرمانة، و«شيعي – سني» بين بربور وطريق الجديدة، لكن يبقى خط التماس ما بين الثنائية الشيعية (حركة أمل وحزب الله) والانتفاضة على محور الخندق الغميق – ساحة الشهداء الأكثر توتراً منذ 17 أكتوبر الماضي.
لن يسمح حزب الله بسقوط حكومته في الشارع، لذلك أدار حرباً «كونية» ضد مظاهرة يوم السبت الماضي، وخطط لإفشالها عبر تغذية الانقسامات بين مجموعاتها وشرذمتها، مستغلاً تعدد الأفكار والمواقف والطروحات بين مكوناتها، لضرب مصداقيتها أمام اللبنانيين وإظهارها بأنها عاجزة عن امتلاك مشروع مقنع للتغيير، وعلى الرغم من التعبئة التي جرت قبل أسبوع ضد تحرك 6 يونيو (حزيران)، والتصويب عليه من بوابة القرار الأممي 1559 الذي كان شعاراً ثانوياً بالنسبة لأغلب المشاركين في المظاهرة، فإن المنظومة الحاكمة صدمت باستجابة شريحة كبيرة من اللبنانيين بنزولهم إلى الشارع، غير آبهين بكل أنواع التهويل التي استخدمت، ما رفع حدة التوتر مبكراً على محور الخندق الغميق – ساحة الشهداء الذي كاد يتسبب في فتنة مذهبية نتيجة شعارات نابية استخدمت ضد مقدسات دينية من قبل أنصار الثنائية.
لم تخلُ المنظومة الحاكمة بشقيها (موالاة ومعارضة) من عقلاء يدركون مخاطر لعبة المحاور وثمنها الباهظ، لذلك سارعوا إلى التهدئة، لكنها تهدئة مرحلية مؤقتة، مرتبطة بحاجة هذه المنظومة إلى سلاح الطائفية للدفاع عن امتيازاتها المهددة من قبل الانتفاضة، وهي لعبة يتقنها من جاء إلى السلطة بعد انتهاء الحرب الأهلية، ونقل متاريسها من محاور القتال إلى داخل مؤسسات الدولة.
لا تملك المنظومة بدائل عن حكومة حسان دياب، وهي أصلاً غير متوفرة، ولا تبدو الأطراف التي استبعدت مستعدة للقيام بتسوية حكومية تساعد هذه المنظومة في استيعاب الشارع، وإعادة ضبطه وفقاً لآليات الانتماء الحزبي والطائفي التي تؤمن لكل الأطراف استدامة في السلطة، وشراكة محدودة بين الفرقاء مفصلة وفقاً لمصادر القوة والنفوذ، وهو ما يؤمن لحزب الله الحفاظ على هيمنته على الدولة واستخدام الأطراف الأخرى من أجل تغطيته داخلياً وتخفيف الضغط عليه خارجياً، لذلك لم يتردد الحزب في القيام بمناورة مدروسة على محاور الاشتباك الثلاثة، من أجل إخضاع معارضيه سياسياً من جهة، ومن جهة أخرى تصفية حساباته مع انتفاضة «17 تشرين».
ليس من الضرورة أن من يتفوق في القتال سيتفوق في السياسة، خصوصاً في بلد مثل لبنان تحكمه توازنات معقدة، فنشوة فرضه حكومة على اللبنانيين وصلت إلى نهايتها نتيجة لأخطاء ارتكبها تكشف محدودية إدراكه للتركيبة اللبنانية وحساسيتها، فمما لا شك فيه أن الاحتكاك المفتعل بين منطقة الشياح الشيعية وعين الرمانة المسيحية، ستذهب نتائجه لصالح خصوم حليفه ميشال عون، كما أن الاحتكاك المفتعل الذي جرى بين منطقة طريق الجديدة السنية وبربور الشيعية، يكشف مدى الامتعاض لدى الشارع السني، الذي يحمله مسؤولية استبعاده من مراكز القرار، وفرض وصايته على موقع السنة في الدولة، كما أن سياسة الإقصاء التي مارسها ضد ممثليه، دفعت هذا الشارع إلى التمرد على الجميع، وانتقاله ليكون رافعة وطنية أساسية في مكونات الانتفاضة. فيما تستمر معضلة حزب الله الأساسية التي تترسخ يوماً بعد يوم لتصبح أزمته الكبرى هي عداؤه المبكر لـ17 أكتوبر (تشرين الأول)، التي شكلت صدمة في الوعي اللبناني الحديث، ونقلت اللبنانيين إلى فضاء عام خارج قيود السلطة وفيدرالية الطوائف، فخسر نتيجة تصادمه معها مظلته الوطنية، ولجأ سريعاً إلى عزل بيئته خوفاً من تمددها إلى داخلها، فالحزب الذي اعتاد التفوق على كل منافسيه وخصومه، يواجه الآن خصماً لا يملك شيئاً ليخسره أو يساوم عليه.
مصطفى فحص
الشرق الاوسط