بعد نحو شهر ربما تنفذ حكومة آبي أحمد في إثيوبيا كليا أو جزئيا تعهدها بملء منفرد لخزان سد النهضة في يوليو/تموز المقبل وعينها على الداخل المتوتر، بعد تأجيل انتخابات برلمانية “مفصلية” كانت مقررة أواخر أغسطس/آب المقبل إلى أجل غير مسمى، لظروف جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).
وبالملء المنفرد من دون اتفاق يهدف آبي أحمد -الذي يواجه انتقادات داخلية لتأجيله الانتخابات- إلى كسب جولة لدى الرأي العام، وتحقيق انتصار معنوي وحشد مبكر للأصوات الانتخابية، من دون أن يلتفت إلى نتائج قبوله بـ”إنعاش مؤقت” لمفاوضات فنية بدأت الثلاثاء الماضي بعد توقف لأشهر.
ووفق معلومات نقلتها تقارير صحفية، يبدأ ملء خزان السد بالتزامن مع بداية فيضان النيل الأزرق، على أن يستمر حتى نهاية فصل الشتاء، بإجمالي 4.9 مليارات متر مكعب، ليبدأ التشغيل التجريبي لإنتاج الكهرباء من السد في مارس/آذار 2021، وذلك رغم مخاوف مصر من احتمال المساس بحصتها السنوية من مياه نهر النيل والبالغة 55.5 مليار متر مكعب.
ومع تمسك آبي أحمد بموعد ملء خزان سد النهضة -حتى من دون اتفاق- تخشى القاهرة “مماطلة إثيوبية جديدة”، وربما تطلب من مجلس الأمن وقف بناء السد وتبدأ معركة قضائية دولية.
وسترفع حكومة آبي أحمد شعار “الداخل أولا”، وهي تعي أن تلويحها بعصا “الرفض الدائم” لتأجيل ملء السد يمثل -وفق مراقبين- اختبارا جديدا لشعبيتها، لكن هذه المرة خارجيا أمام إرادة مصرية تتمسك بتصعيد الإحراج الدولي لأديس أبابا ضمن أوراق المواجهة الدبلوماسية.
فمخاطبة الداخل المتأزم -سواء بأزمات سياسية أو تداعيات كورونا- كانت واضحة في كلمة لرئيس الوزراء الإثيوبي أمام برلمان بلاده في 8 يونيو/حزيران الجاري رغم أنه تلقى في اليوم التالي ضربة بإعلان رئيسة مجلس النواب كيريا إبراهيم استقالتها من منصبها اعتراضا على تأجيل الانتخابات، وخشية مما وصفتها بـ”دكتاتورية في طور التكوين”.
وفي الاجتماع البرلماني رفض آبي أحمد مطلب معارضيه بتشكيل حكومة انتقالية بمجرد انتهاء ولايته في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك في ظل قرار تم اتخاذه في مارس/آذار بتأجيل الانتخابات.
ونفى اتهامات معارضيه بمحاولة تمديد حكمه تحت غطاء وباء كورونا الذي سجل في إثيوبيا حتى الثلاثاء 2336 إصابة، بينها 32 وفاة، في ظل إعلان حالة طوارئ بدأت في أبريل/نيسان الماضي لمدة خمسة أشهر.
ولم يترك آبي أحمد الاجتماع البرلماني يمر من دون الحديث عن السد، بالقول إن قرار ملء السد “لا رجعة فيه”، والتشديد على أن الهدف منه هو تنمية إثيوبيا دون الإضرار بأحد.
وليس آبي أحمد فقط المتمسك بملء السد حتى من دون اتفاق، فنائبه ديميك ميكونين قال الأحد الماضي إن “بناء السد مستمر على قدم وساق، لبدء ملء المياه في الإطار الزمني المحدد له بموسم الأمطار هذا العام” بحسب الوكالة الإثيوبية الرسمية للأنباء.
ولا يضع آبي أحمد في تصوره أن يعيق كورونا ملء السد، حيث قال في الذكرى التاسعة لبدء إنشاء السد في أبريل/نيسان 2011 “رغم كون وباء كورونا أصبح تحديا فإننا نتوقع أن نرى عملية بدء تخزين مياه سد النهضة بداية الخريف”.
الفرصة الأخيرة
وإزاء “جمود” الموقف الإثيوبي تجاه تغيير موعد الملء، يعلق البعض آمالا على الوساطة السودانية الجديدة في تفكيك “التشدد” الإثيوبي، ولا سيما مع قبول متحفظ من مصر لعودة المفاوضات وإعلان الخرطوم -في بيانات رسمية- عن مخاوف بشأن حماية مصالحها المائية، فضلا عن ذهابها إلى مجلس الأمن بمذكرة عن أزمة السد.
ولم تخفِ الوساطة السودانية -وهي بمثابة “الفرصة الأخيرة”- أن جزءا أساسيا من عودة المفاوضات ينصب على بحث إعلان إثيوبيا ملء السد، بحسب تصريح لوزير الري السوداني ياسر عباس عقب استئناف المفاوضات الثلاثية يوم الثلاثاء الماضي.
ووفق نتائج أولية مع انطلاق الاجتماع أعلنها عباس، ستكون اللقاءات يومية حتى إعلان تقييم موعده الاثنين أو الثلاثاء المقبلين، وهو ما يكشف أن الخرطوم تحاول تحقيق اختراق، لكن سوابق تلك الاجتماعات “غير مبشرة”.
ولن يمثل حضور مراقبين من الاتحاد الأوروبي ودولة جنوب أفريقيا (الرئيسة الحالية للاتحاد الأفريقي)، إلى جانب المراقب الثالث الأميركي -لأول مرة- رهانا قويا يساعد الوساطة السودانية على حل القضايا العالقة بين القاهرة وأديس أبابا.
غير أنه يبقي دليلا على اتساع دائرة الرقابة الدولية بظهور أوروبي يزاحم الرعاية الأميركية، إذ إن أديس أبابا -وبعد جولات مفاوضات قادتها واشنطن والبنك الدولي الأشهر الأخيرة- رفضت الذهاب للتوقيع على وثيقة للحل قبلتها مصر، بدعوى أنها لم تحز قبولا ونقاشا واسعين في إثيوبيا، وذلك قبل شهر من إعلان تأجيل الانتخابات، وبالتالي لن يكون التوافق الشعبي أو السياسي على الأقل حاضرا في ظل تداعيات تأجيل الاقتراع.
ولم يكن الرفض الإثيوبي والتحفظ السوداني على وثيقة واشنطن أمرا متوقعا في ملف تدخلت فيه الولايات المتحدة، والتقطت عدسات الكاميرات ظهورا لافتا للرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال إطلاق المباحثات التي تعثرت لاحقا.
وكان تفاؤل السودان بنجاح الرعاية الأميركية مشابها لما خرج به ياسر عباس عقب الاجتماع الأول لاستئناف المفاوضات بقوله إن اللقاء الثلاثي الافتراضي “تم بروح إيجابية ونقاش مثمر”.
مخاوف القاهرة
إذًا، هل ستكون تلك اللقاءات الثلاثية برعاية سودانية ومراقبة أوروبية أفريقية أميركية “حرثا في البحر”؟
سؤال طرحت مصر إجابته مبكرا عبر مخاوف أعربت عنها عقب اجتماع لمجلس الأمن القومي المصري رفيع المستوى بتحذيره من أن تصبح اللقاءات “أداة جديدة للمماطلة والتنصل من الالتزامات”، في إشارة إلى انسحاب غير متوقع لأديس أبابا من مسار واشنطن.
ورفض المجلس بوضوح الملء المنفرد للسد أو الحديث الإثيوبي بشأنه، مؤكدا عودة القاهرة إلى المفاوضات لاستكشاف “مدى توفر الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق”.
هذه اللغة اعتبرها وزير الري الأسبق في مصر محمد نصر علام عبر تدوينة في فيسبوك دليلا على أن صبر القاهرة “كاد ينفد”، وأن المشاركة وفق شروط جدول زمني محدد “فرصة أخيرة للسلام”، و”إرضاء للوسيط السوداني”.
غير أن قراءة “صبر مصر الذي ينفد” قد تصطدم واقعيا بقراءة مختلفة يتبناها علام أيضا، وترى أن تصريحات إثيوبيا تستهدف كسب الرأي العام بالداخل وليست للخارج، وهو ما يرجح استمرار مصر في خيار مناورات المعارك الدبلوماسية التي انطلقت أواخر 2017 مدعومة بقصف إعلامي متى تطلّب الأمر ذلك.
وبدلا عن تضييق إثيوبيا الخناق على مصر بخيار الملء المنفرد للقبول بأقل الخسائر مع السودان تتحرك القاهرة إلى الأمام عادة عبر جولات محرجة لإثيوبيا خارجيا أمام الرأي الدولي، وضاغطة محليا، وظهر هذا بتوجه مصر في مايو/أيار الماضي بخطاب إلى مجلس الأمن بشأن ما اعتبرته “موقفا إثيوبيا متعنتا”.
وقبل الخوض في استنئاف المفاوضات الثلاثية، أبلغت مصر كلا من روسيا وألمانيا وإيطاليا قبولها العودة إلى طاولة المباحثات شريطة عدم إقدام إثيويبا على أي إجراءات أحادية بشأن السد، ومنها الملء، فضلا عن استمرار القاهرة في مشاورات دولية.
وكانت مصر في أول اجتماع منتبهة لنتائج الجولات السابقة، وحتى لا تعود إلى نقطة الصفر طرحت أن تكون وثيقة واشنطن -التي وقعت عليها في فبراير/شباط الماضي- “مرجعية” لانطلاق المفاوضات لبحث النقاط العالقة فقط، بحسب وسائل إعلام مصرية.
والرابح في صراع سد النهضة هو من سيمتلك أوراقا دبلوماسية وقانونية أقوى إن احتاج الأمر ذلك، وليس من يمارس دعاية الحشد مهما كانت ترياقا للشعبية، فالمنطقة تعاني تداعيات جائحة كورونا، ولن تتعافى قبل 2021 على أقل تقدير، وليس بوسعها تحمل مواجهات صدامية مباشرة مستبعدة عادة لدى الطرفين المصري والإثيوبي.
وقد تلجأ القاهرة إلى طلب وقف بناء السد عبر مجلس الأمن قبل التوجه إلى معركة قضائية دولية في حال توجهت إثيوبيا إلى ملء السد من دون اتفاق، وذلك استنادا إلى البند الخامس من اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة بين البلدان الثلاثة في 2015، والتي تنص على أنه لا يتم الملء إلا بعد الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل.
وفي ظل تقلبات المنطقة وأزمتها الكبرى مع كورونا فإن من الصعب التكهن بالمنتصر في جولة ملء سد النهضة، وفي ظل غياب توافق تبدو سيناريوهات الموقف المصري أقرب إلى “قلب الطاولة” في ممرات المواجهات الدولية.
الجزيرة