د.معمر فيصل خولي
يوم الأربعاء الماضي، وبعد غياب طوعي طويل، عادت السياسة الأمريكية رسميًا إلى صلب الصراع على سورية(1)، حيث بدأ سريان «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا للعام 2019»، المعروف بـ«قانون قيصر»، تكريما لمصور سوري اسمه السري «قيصر» ووثق بعدسته عشرات آلاف حوادث سوء معاملة وانتهاك لمواطنين سوريين على يد أتباع النظام السوري بعد اندلاع الاحتجاجات السلمية في أذار/ مارس 2011.
وتم تمرير هذا القانون بأغلبية ساحقة في كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب منذ ستة أشهر ووقعه الرئيس دونالد ترمب في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. وأعلن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وكبير أعضائها ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب وكبير أعضائها في بيان في الـ8 من الشهر الجاري أولوية الكونغرس بـ«إنفاذ قانون قيصر بشكل قوي ومستدام بغرض توجيه رسالة إلى النظام وممكنيه مفادها أن الأسد لا يزال شخصا منبوذا». صحيح أن النظام السوري، عرضة لعقوبات أميركية وأوروبية يعود بعضها إلى ما قبل 2011. لكن هذا القانون سيزيد الضغوط على الأسد، وهو يصارع أزمة اقتصادية متصاعدة بعد حرب في عامها العاشر(2).
«قانون قيصر» الأميركي الجديد سوف يشدد القبضة على اقتصاد النظام لإرغامه على تطبيق القرارات الدولية، وخاصة القرار رقم 2254 الذي يدعو إلى قيام حكومة انتقالية وعملية تغيير سياسي سلمي للسلطة. وخيار السوريين بين مصيبتين: الخضوع لظلم النظام الجائر، مع ما يرافق ذلك من قتل وظلم وتجويع، أو مواجهة آثار العقوبات على أمل أن يستعيد النظام رشده، أو يتم إرغامه على الاستسلام أمام الضغط الشعبي والموقف الصارم لأكثرية القوى الدولية(3).
“قانون قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ يعني كثيرًا بالنسبة إلى إيران، وربما هي المعنية به بالدرجة الأولى أكثر من روسيا، الحليف الآخر للحكم السوري، فقد نددت إيران يوم الخميس الماضي بالجولة الجديدة من العقوبات الأميركية، ووصفتها بأنها غير إنسانية وقالت إنها ستعزز روابطها التجارية مع دمشق. وقال عباس موسوي المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية لوسائل إعلام رسمية: «في الوقت الذي يواجه فيه العالم جائحة فيروس كورونا، لن يكون من شأن فرض مثل هذه العقوبات غير الإنسانية سوى تعميق معاناة الشعب السوري». وأضاف موسوي «سنواصل تعاوننا الاقتصادي مع الحكومة السورية، ورغم هذه العقوبات سنعزز علاقاتنا الاقتصادية مع سوريا».
إن الشعور بخطورة قانون “قيصر” دفع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، إلى كسر الحظر الذي فرضه فيروس كورونا منذ أربعة أشهر على زياراته الدبلوماسية، ليذهب سريعًا إلى تركيا، ومن ثمّ إلى روسيا أخيرًا، وذلك بحثًا عن روادع في مواجهة القانون، سواء في إطار عملية “أستانة” المتعلقة بسورية، أو في سياق التنسيق مع روسيا، المعنية هي الأخرى بالقانون.
تحرك إيران السريع جاء مدفوعًا من إدراك أنّ المستهدف الأساسي من قانون “قيصر” هو نفوذها في المشرق العربي، وتحديدًا في سورية، التي تحظى بثقل استراتيجي في الحسابات الإيرانية الإقليمية. وانطلاقًا من فهم القانون في السياق الإقليمي للصراع الإيراني الأميركي، فإنه ينقل المعركة مع طهران إلى مرحلة جديدة، لكونه يمثل نقطة تحوّل في استهداف أذرعها بالسلاح “الفتاك” نفسه، الذي لطالما استخدمته واشنطن ضدّ طهران منذ أكثر من عامين بعد انسحابها من الاتفاق النووي، أي العقوبات أو “الحرب الاقتصادية الشعواء”، حسب التسمية الإيرانية.
يطرح بدء سريان قانون “قيصر”، تلقائيًا، تساؤلات ملحّة عن تأثيراته المحتملة، سياسيًا وعسكريًا، على السياسة الإيرانية في سورية. فعلى المستوى السياسي، لا شكّ في أنّ القانون الأميركي يضع إيران في سورية أمام تحديات جديدة في لحظة حساسة جدًا، أرادت استثمارها لتعزيز نفوذها ودورها في سورية، بعدما تبدلت موازين القوة في الميدان لمصلحة الحكم السوري، إذ أرادت طهران إلى جانب موسكو ترجمة “النجاحات” العسكرية في ترتيبات سياسية معينة، بما يضمن بقاء النظام السوري ورئيسه بشار الأسد من جهة، ويعزز نفوذها وحضورها في سورية من جهة ثانية.
إلا أنّ “قيصر” الأميركي جاء ليمنع إيران من هذا الاستثمار، وليحدّ من تأثيرها في مرحلة ما بعد التغييرات الميدانية العسكرية، عبر إرباك المشهد، وخلط الأوراق من جديد. إذ يستهدف القانون حرمان الحكم السوري الحليف لطهران أهم مقومات تثبيته، عبر شلّ الاقتصاد السوري، ومنع إعادة الإعمار، الأمر الذي يضع هذا الحكم أمام أزمة اقتصادية خانقة، لا يملك مفاتيح الخروج منها. وهنا عندما يصبح الجسم الذي تعتمد عليه طهران في وضع هشّ كهذا، وتتهدد مقوماته، فمن شأن ذلك أن يُدخل مجمل السياسة الإيرانية في سورية في مرحلة حرجة قد تطيح ما كانت طهران تخطط له لتعزيز النفوذ والحضور بعد تحولات موازين القوة ميدانيًا.
وتتجاوز التحديات التي يشكلها “قيصر” للسياسة الإيرانية في سورية، مسألة التهديدات التي يوجهها إلى الحكم السوري الحليف، إلى أنّ القانون قد يُفقد أيضاً طهران إحدى أهم أدوات مواجهة التحديات الناجمة عنه في سورية، إذ إنّ القانون يُؤسس لوضع جديد وخطير في لبنان في هذا التوقيت الحساس(4)، يواجه اللبنانيون المصير الحالك نفسه. بلد محاصر بضائقته المالية من جهة وبهيمنة «حزب الله» على قراره السياسي من جهة أخرى. والتلازم بين الأمرين ما عاد خافياً إلا على من لا يريد أن يبصر هذه الحقيقة بين اللبنانيين. صحيح أن جانباً من الأزمة المالية يعود إلى النهب المنظم للخزينة العامة والفساد المستشري، لكن الجانب الآخر يتعلق بالربط القائم بين موارد البلدين، من خلال التهريب الجاري عبر الحدود لمواد أساسية ممولة من المصرف المركزي اللبناني، تستنزف احتياطه النقدي، من دون أي قدرة للدولة على منعه، في ظل عجزها المعروف. تضاف إلى ذلك السحوبات الجارية لودائع متمولين سوريين من المصارف اللبنانية، في حين يعجز المودعون اللبنانيون عن سحب الحد الأدنى من أموالهم.
غير أن الأهم من ذلك أن العقوبات الجديدة على الحكم السوري سوف تزيد صعوبات حصول الحكومة اللبنانية على المساعدة التي تحتاج إليها من صندوق النقد الدولي؛ نظراً لإدراك المسؤولين في الصندوق والقوى الدولية النافذة التي تتحكم في قرارهم، لمدى ترابط المصالح بين عدد من المسؤولين في الدولة وكبار السياسيين مع أركان النظام السوري، ما يبقي هؤلاء المسؤولين تحت عين المراقبة الأميركية.
فقد أدرك الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، أن معركة العقوبات ستكون قاسية هذه المرة، وستهدد قدرته على الدفاع عن سلاحه، كما ستلحق الأذى بقاعدته الشعبية، فكان التصعيد الاستثنائي الذي سمعناه على لسانه قبل بضعة أيام: سنقتل أي طرف يضعنا أمام خيارين، القتل بالسلاح أو القتل بالجوع. سيبقى السلاح بأيدينا ونحن سنقتلكم(5).
فضلاً عمّا سبق، من أهمّ تبعات العقوبات الأميركية المشددة، التسبب بتدهور خطير في الوضع الأمني بالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، ليفرض ذلك تحديات أمنية وعسكرية خطيرة مختلفة عن سابقاتها، على إيران والفصائل المسلحة المقاتلة إلى جانبها في سورية(6). فقد أدرجت مليشيا “فاطميون” الأفغانية، ضمن العقوبات الأمريكية التي أسسها “الحرس الثوري الإيراني” وتمولها إيران مباشرة. إن إدراجها ضمن لائحة العقوبات، يأتي في سياق مسعى لتطويق الوجود الإيراني العسكري والسياسي وحتى الاقتصادي في البلاد، وتهديد توسع النشاط العسكري للنظام والإيرانيين بالمجمل، في وقت تحشد فيه قوات النظام ومليشيات إيرانية قوات على خطوط التماس في إدلب بنية تنفيذ عمل عسكري. وقد تجبر العقوبات الأخيرة النظام والإيرانيين على إعادة التفكير قبل الإقدام على فتح معركة إدلب(7).
إلا أنّ قانون “قيصر”، إلى جانب تهديدات وتحديات كبيرة يفرضها على طهران في سورية، سياسيًا وأمنيًا، فإنه في الوقت نفسه قد يشكل فرصة لها، ولو خجولة، لا تتوافر لغيرها. إذ إنّ القانون بحكم التهديدات الأميركية بفرض عقوبات على أي دولة تنتهكه من خلال مساعدة سورية اقتصاديًا والمشاركة في ملف إعادة الإعمار، من شأنه أن يصرف هذه الدول، بما فيها روسيا عن ذلك، خوفًا من العقوبات الأميركية. وهو في المقابل يعني إخلاء الساحة لإيران، إذ لا يوجد ما يردعها عن تقديم مساعدات اقتصادية للحكم السوري، لكون الاقتصاد الإيراني محظورًا بالأساس، وسلاح التهديد بفرض العقوبات على التعاون الاقتصادي مع دمشق، ليس فاعلاً هنا مع طهران، إلا إذا أُرفق القانون لاحقًا بأدوات عملية أخرى لمنع الالتفاف على العقوبات ضدّ الحكم السوري، مثل فرض حظر جوي وبحري وبري، وهذا مستبعد حاليًا(8).
مرحلة جديدة تدخلها الأزمة السورية مع العقوبات الأميركية الجديدة. والرهان على أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين «استسلموا» أمام «انتصار بشار» تبين أنه كان رهانًا في غير محله. فالعقوبات التي سوف يواجهها الحكم السوري وحلفاؤه في المرحلة المقبلة هي الأقسى مقارنة بما واجهه خلال السنوات التسع الماضية(9).
مما شك فيه سيزيد “قانون قيصر” الضغوط الإقتصادية على الحكم السوري، السؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل سيوثر هذا القانون على الدور الإيراني في سورية؟
الهوامش:
1- جو معكرون، “قانون قيصر”: أميركا تفتتح البازار الدولي في سورية، صحيفة العربي الجديد، ينظر الرابطالتالي: https://www.alaraby.co.uk/politics/2020/6/16/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%82%D9%8A%D8%B5%D8%B1-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D8%AA%D9%81%D8%AA%D8%AA%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9
2- «قانون قيصر» الأميركي… رسالة مشروطة للأسد وحلفائه، صحيفة الشرق الأوسط، ينظر الرابط التالي: https://aawsat.com/home/article/2338126/%C2%AB%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%82%D9%8A%D8%B5%D8%B1%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%88%D8%AD%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%A6%D9%87
3- الياس حرفوش، «قيصر» وبشار وأوهام الانتصار، صحيفة الشرق الأوسط ينظر الرابط التالي: التالي، https://aawsat.com/home/article/2341756/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B3-%D8%AD%D8%B1%D9%81%D9%88%D8%B4/%C2%AB%D9%82%D9%8A%D8%B5%D8%B1%C2%BB-%D9%88%D8%A8%D8%B4%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A3%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1
4- قانون “قيصر”: إيران تخشى على نفوذها في المنطقة، صحيفة العربي الجديد، ينظر الرابط التالي: https://www.alaraby.co.uk/politics/2020/6/17/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%82%D9%8A%D8%B5%D8%B1-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%AE%D8%B4%D9%89-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%86%D9%81%D9%88%D8%B0%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9
5- الياس حرفوش، مصدر سابق.
6- قانون “قيصر”، مصدر سالق.
7- عماد كركص، الحزمة الأولى من عقوبات “قيصر”: إنهاك النظام السوري وإيران، صحيفة العربي الجديد، ينظر الرابط التالي: https://www.alaraby.co.uk/politics/2020/6/18/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%86-%D8%B9%D9%82%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%82%D9%8A%D8%B5%D8%B1-%D8%A5%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%E2%80%8B-%D9%88%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86
8- قانون “قيصر” ، مصدر سابق.
9- الياس حرفوش، مصدر سابق.