شهد هذا الأسبوع تأجيل اللقاء الروسي – التركي بشأن النزاع الليبي الذي كان مقررا في أنقرة، كما جرى خلاله بحث حلف شمال الأطلسي شكوى فرنسية عن تصرفات عدوانية تركية غير مقبولة لمنع تطبيق قرار حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا. وإذا كان رجب طيب أردوغان يقوم بالرقص على الحبال المشدودة بين واشنطن وموسكو والاتحاد الأوروبي لتحقيق التمدد التركي الذي يصبو إليه، فإن الأزمة الداخلية في حلف الناتو تعكس تذمرا متصاعدا من توسع الدور التركي وتنذر بصعوبات حول هوية الحلف ومهامه، وبمرحلة حرجة من التوترات في البحر الأبيض المتوسط.
بالرغم من تضامن غالبية الدول الأوروبية (ومنها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا) مع فرنسا، لفت النظرَ الموقفُ المتحفظ لواشنطن التي تقود الناتو والتي لولا ضوؤها البرتقالي لما تحركت أنقرة بهذه السهولة على المسرح الليبي.
وما الاكتفاء بفتح تحقيق من قبل الناتو في الحادثة محل الشكوى إلا محاولة لحجب الأزمة الداخلية للناتو التي باتت جليّة عند انعقاد قمة لندن أواخر العام الماضي بمناسبة الذكرى السبعين لتوقيع معاهدة حلف شمال الأطلسي.
في الحقيقة اهتز وضع الناتو منذ وصول إدارة الرئيس دونالد ترامب وتناقص الاهتمام الأميركي بإعلاء دوره، وازداد الاضطراب داخله للنقص في إسهام الأوروبيين فيه (بعد البريكست وخروج بريطانيا من الاتحاد، ثمانون في المئة من قدرات الحلف غير أوروبية)، وبسبب مواقف تركيا الأحادية من شمال سوريا إلى شرق المتوسط وليبيا من دون أخذ رأي الحلف.
وما التوتر الفرنسي – التركي الحالي إلا امتداد لتجاذب بدأ في العام الماضي حول المسألة الكردية والدور التركي المستجد في سوريا وحينها وصل الأمر بالرئيس إيمانويل ماكرون للحديث عن “موت سريري” لحلف شمال الأطلسي. والجدير بالذكر أن الانزعاج من الموقف التركي لا يقتصر على فرنسا، إذ انتقدت دول البلطيق وأوروبا الشرقية منذ فترة طويلة “الابتزاز” الذي تمارسه أنقرة، والذي يمنع “خطط الدفاع المتدرجة” المخطط لها ضد روسيا، وذلك لفرض إدراج الناتو والاتحاد الأوروبي لميليشيات “وحدات حماية الشعب” الكردية (YPG) والجناح العسكري لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) على اللوائح الإرهابية.
وأبعد من ذلك، يشعر الأوروبيون بالقلق من النشاط العسكري التركي “الضخم” من العراق وسوريا إلى ليبيا، حيث جندت أنقرة وأرسلت آلاف المرتزقة. والأهم أن باريس كما عدة عواصم أوروبية لا تعترف باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وحكومة الوفاق الليبية وتعتبرها غير قانونية وكأمر واقع، وتتحدث بعضها عن “امتداد الإمبراطورية العثمانية إلى الغرب من البحر الأبيض المتوسط”.
بيد أن هذه اللوحة الرمادية لواقع الناتو لا تمنع أمينه العام ينس ستولتنبرغ من إبداء التفاؤل لمجرد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يعد يعتبر الحلف “فكرة عفا عليها الزمن وانتهت صلاحيتها” ولا تزال واشنطن تعتبر الناتو من أدواتها السياسية الفعالة، ولهذا تستمر بلعب دور العراب والضامن الرئيسي لديمومة الناتو. وهنا يكمن سبب تمسك الولايات المتحدة بعدم القطع مع تركيا نظرا إلى موقعها الجيواستراتيجي ولوجود قواعد أطلسية على أراضيها، ولكي لا تذهب نحو خيارها الأوروآسيوي والتعاون مع موسكو.
ويتضح أيضا أن أنقرة تملك في وجه الاتحاد الأوروبي أوراق اللجوء والهجرة غير الشرعية والاستثمارات الاوروبية والعلاقات التجارية. وتبعا لعدم وجود قرار أوروبي موحد (ألمانيا والنمسا تراعيان العلاقة مع تركيا لجملة من الأسباب التاريخية والآنية) وللموقف الأميركي المتراوح، تتمتع أنقرة بهامش مناورة، وهذا يسمم تماسك حلف شمال الأطلسي وأدواره، ويبين عدم قدرته على التنسيق بشأن القرارات الاستراتيجية التي اتخذتها الولايات المتحدة وتركيا في سوريا أو بشأن تناقض تحركات أعضائه في ليبيا وشرق المتوسط، إذ تنظر لندن وواشنطن وقيادة الحلف إلى أن تدخل أنقرة في ليبيا على أنه ثقل موازن لتدخل موسكو، بينما تعترض عليه الدبلوماسية الفرنسية وتعتبر أن “المزيد من الدور التركي في ليبيا لا يعني تحجيم الدور الروسي”، إزاء كل هذا التضارب وعدم التماسك، يتساءل أكثر من مراقب حول مفهوم “الأمن الجماعي” الذي يبغيه الحلف.
في واقع الأمر، سهلت العمليات العسكرية لأنقرة في منطقة تقع على مفترق الطرق بين أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط بسبب تحلل النظام العالمي الناتج عن الحرب الباردة، إذ تركز الولايات المتحدة في المقام الأول على الحد من المشاركات الخارجية، في حين يبدو الاتحاد الأوروبي من دون آفاق سياسية، وفاشلا في الميدان الليبي، ولذا يبدو المعسكر الغربي الأطلسي والأوروبي أقل تأثيرا في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لشرق المتوسط وشمال أفريقيا، وهي ترتبط بالخرائط الجديدة لمنابع وممرات الطاقة، خاصة منذ اكتشاف حقول الغاز المهمة في قبرص وإسرائيل ومصر وتحوّل شرق البحر الأبيض المتوسط إلى نقطة ساخنة جديدة في الصراعات الإقليمية – الدولية.
د.خطار أبو دياب
العرب اللندنية