كان من المقرر أن تعقد القمة العربية في ربيع هذا العام بالجزائر، ومن الغريب حقاً ألا يلتقي القادة العرب على الأقل عبر الوسائل الإلكترونية في ضوء تعدد المخاطر وضخامة التحديات الجسيمة التي تتعرض لها المنطقة.
وأياً كانت أسباب التأجيل، نتيجة لتداعيات فيروس كورونا، أو لاعتبارات سياسية مختلفة، أو لتباين المواقف حول كيفية التعامل مع ملف عودة سوريا إلى القمة العربية، أو حول التعامل مع ليبيا وقطر وتركيا وإيران وإسرائيل وشرق أفريقيا إلخ. فغياب الحوار العلني بين القادة العرب في ظل كل ما نشهده من أحداث، يعطي رسالة سياسية خاطئة للعدو والصديق بتعذر تحرك العرب لمواجهة المخاطر، ويغذي الإحباط والشعور المجتمعي العربي بأن مصائر المنطقة في أيدي الغير.
ولقد آن الأوان لكي يستيقظ العالم العربي، ويتعامل مع تحدياته بسرعة وجدية، قبل أن يتحول من طرف رئيس إلى طرف مهمش في ساحة يحظى فيها بالأغلبية، مع كل ما يحمله هذا التناقض من مخاطر وشجون داخلية وإقليمية بمرور الوقت.
وأعتقد أن العالم العربي في أشد الحاجة للاجتماع، أو على الأقل لحوار على مستوى القمة، وفي أسرع وقت، ليس لأن القمم العربية أثبتت فعاليتها السحرية في الماضي، رغم أن مصداقيتها تضاءلت بشكل كبير عبر العقود الأخيرة في ضوء فشلها في التعامل مع العديد من التحديات.
وإنما ما يحفزني بشكل رئيس للإصرار على الدعوة للحوار على مستوى القمة العربية، هو تنامي طموحات وتدخلات دول الشرق الأوسط غير العربية على حساب الحقوق العربية من جهة، ومن جهة أخرى ميل المزيد من دول المجتمع الدولي لتركيز اتصالاتها ومشاوراتها حول قضايا عربية على تلك الدول فقط، مع تجاهل الطرف العربي للعديد من القضايا، وهو ما شاهدناه في الاتصالات الروسية والأميركية مع إيران وتركيا وإسرائيل.
ومن أجل أن يتجنب العالم العربي الهاوية السياسية التي تترنح على شفتها، ويبدأ في استرداد جزء من دوره ومكانته، عليه أن يبدأ في ترتيب أوضاعه العربية، وإيجاد معادلة ملائمة لاستعادة جزء من العمل العربي المشترك على الأقل وفي أسرع وقت، حتى إذا استغرق استعادة الثقة الكاملة بين الأشقاء العرب قدراً غير قليل من الوقت، لأن خطورة الأوضاع في المنطقة وتهديدها للأمن القومي الوطني والإقليمي العربي تتطلب إجراءات واضحة وصريحة للتعامل العاجل لمواجهة ومعالجة قضايا عديدة، وأخص بالذكر لأهميتها:
أولاً: توغل تركيا في الساحة والقضايا العربية في سوريا وليبيا والعراق وحوض البحر الأحمر وشرق أفريقيا، وإعادة إثارتها باطلاً لحقوقها التاريخية، بالتوازي مع سعيها لدعم مكانتها الجيوسياسية.
ثانياً: تمركز إيران وأتباعها في بلاد الشام والمشرق عامة، وتوسيع نفوذها في الخليج، والساحات المائية المتصلة بالخليج العربي واليمن ومضيق هرمز وباب المندب، لترتيب دور إقليمي متنامٍ، بخاصة مع تقلص الدور الأميركي في الشرق الأوسط وتعثر سياساتها.
ثالثاً: تعثر عملية السلام العربية الإسرائيلية واستمرارها، ومحاولات تفتيت أسس عملية السلام، وهو ما نشهده حتى الآن، حتى من بيني غانتس وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي افترض البعض أنه يسعى للسلام وبديل أفضل من الليكود، وهذا يؤثر في الاستقرار والأمن القومي لعدد من الدول العربية، بخاصة الأردن، ودول أخرى في المشرق، وحتى في مصر والخليج ولدى كافة الدول العربية التي تدعو إلى سلام عربي إسرائيلي شامل.
والهدف الرئيس والمشترك لتركيا وإيران وإسرائيل ليس فقط توسيع نفوذها في المنطقة، بل تغيير هويتها بشكل استراتيجي من المنطقة العربية وغيرها إلى المنطقة الشرق أوسطية التي يوجد فيها عدد من الدول العربية المتفرقة وغير الفعالة.
وليس من المبالغة القول إنه من الصعب التصدي لتلك السياسات والتحديات الجوهرية دون إعادة ترتيب البيت العربي، والسبيل ليس في الشعارات أو المزايدات، بل بالمصارحة والعمل الدبلوماسي الدؤوب.
وليس من الممكن ببساطة الحد من جماح التدخل الإيراني في المشرق دون تغيير العلاقات بين سوريا والعالم العربي، ولن يتحقق ذلك دون العودة السورية إلى الجامعة العربية، وهو أمر يصعب تحقيقه دون اتخاذ سوريا خطوات تجاه العالم العربي، خصوصاً فيما يتعلق بعلاقاتها مع إيران تجاه الأطراف التي كانت ولا تزال على خلاف معها في الخليج العربي، كما لا أرى أي مجال للحد من النفوذ الإيراني في المشرق العربي دون فتح قنوات (عربية – عربية) للحد من المساحة المتاحة لإيران في لبنان والعراق، وهو جهد تتضاءل فرص نجاحه يوماً بعد يوم مع ملء إيران للفضاء العربي.
كما يتطلب الانخراط الفعال في الغطرسة التركية موقفاً عربياً حازماً وصريحاً بشأن ممارسات غير مشروعة متمثلة بالدعم العسكري في ليبيا، وتجاوزات على الأراضي السورية، وتمسكها بقواعد عسكرية في العراق رغم أنف ودون موافقة الحكومة الوطنية بالبلاد، وغير ذلك من الممارسات التي تمس الأمن القومي والاستقرار الداخلي للعديد من الدول العربية.
وعلى الرغم أنني لا أحمّل الانشقاق الفلسطيني مسؤولية تعثر عملية السلام العربية الإسرائيلية، فلدي يقين بأنه من الصعب النجاح في التصدي لإجراءات الضم الإسرائيلية بالضفة الغربية لنهر الأردن، كلياً أو جزئياً، التي ستقضي على أي أمل متبقٍ لحلم السلام بين الدولتين، أو استعادة العرب لأخذ زمام الدعوة لاحترام حقوق المواطنة الفلسطينية وإقامة دولتهم، دون التوفيق بين الأوضاع الفلسطينية والعودة إلى إطار المواطنة الجامعة للدولة الفلسطينية، وهي خطوة ضرورية حتى لا يبرر الانقسام الذريع للتعامل مع الفلسطينيين كدويلات ومقاطعات، تستغل التفريق بينهم لتمرير صفقات شرق أوسطية، وضمّ أراضٍ جديدة لإسرائيل على حساب الشعب تحت وطأة الاحتلال، ولن ينجح الفلسطينيون في التصدي السياسي والشعبي للإجراءات الإسرائيلية القادمة في ظل انقسامهم.
كل هذه القضايا والنزاعات هي تداعيات ونتائج لممارسات تعكس عدم احترام القانون الدولي، والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان المجاورة، والسعي إلى الهيمنة الإقليمية التي لا ينبغي التسامح معها أو قبولها في المستقبل، ويجب ألا نصمت على الوضع الإقليمي الحالي، الذي يحمّلنا ثمناً بالغاً، ولن نشهد أي تقدم نحو تغييره مع استمرار الوضع العربي على ما هو عليه.
وتقتضي الأمانة المصارحة أيضاً أن الأمور لن تحل وحدها بدون تجاوب كافة الأطراف العربية المختلفة، ليخرج كل طرف، ظاهرياً على الأقل، بحصيلةٍ ما من التقارب العربي، حتى لو لم يكن على قدم المساواة لأنه لا توجد مساواة بين الحق والباطل، وإنما التحرك ضروري ولمصلحة كافة العرب على المدى الطويل، لأن الهيمنة الأجنبية في نهاية المطاف على حساب جميع العرب، لذا يجب علينا إيجاد سبل دبلوماسية لضمان توفير قدر من الإنجاز والمصالح للجميع، وحفظ ماء الوجه للبعض الآخر.
وبالنظر إلى كل هذه الاعتبارات، وازاء الظروف القاسية والوجودية التي تواجه العرب، فإنني أؤكد أهمية وعجالة التحرك العربي السريع بخطوات ملموسة، بحيث نكون طموحين إذا أردنا العودة من حافة الهاوية السياسية، وجريئين باتخاذ مواقف وتدابير على المستوى العربي، أو على الأقل على المستوى الوطني بين الدول المتوافقة، حتى نتمكن من دعم مصداقية وثقل دعوتنا للآخرين لدعم موقفنا وتحمل المسؤولية تجاه من يخالف القانون.
إن الصعوبة في التوصل إلى اتفاق حول كافة هذه العناصر ليس مبرراً، ولا السبب في عدم البدء بالتعامل معها، أو الاكتفاء بالتصريحات الرنانة عن التوافق العربي، والوصول إلى صيغ عامة لم يتم تنفيذها، أو حتى إصدار القرارات لتسجيل المواقف السياسية، حتى إذا كان لذلك جوانب إيجابية ومفيدة، مثل تلك الصادرة عن الاجتماع الوزاري العربي الأخير حول ليبيا والحقوق المائية لمصر والسودان، وإنما تلك القرارات غير كافية، وتفتقر إلى إجراءات ملموسة ضد من يضرون بالمصالح العربية ويهددون أمننا القومي.
ويجب العمل بكل جدية لاتخاذ تدابير لبناء ثقة في المسارات العربية العالقة والخلافية، واقتراح آليات دبلوماسية نشطة في سعينا لإيجاد مواقف عربية توافقية، ويمكن تحقيق ذلك بتكليف أحد القادة العرب، أو عدد محدود منهم كمنسقين لكل من تلك القضايا. وفيما يتعلق بسوريا، واليمن، وليبيا، وتركيا وإيران وإسرائيل، وعملية السلام العربية الإسرائيلية وغير ذلك، بغية تمهيد وإعداد الأرضية الدبلوماسية وبناء الثقة للتواصل بعد ذلك بين الأطراف المعنية مباشرة، فالأمر لم يعد يتحمل إلا التعامل الجاد والصادق أمام تحديات العصر التي تهدد مصالح جذور وهوية العالم العربي.
نبيل فهمي
اندبندت عربي