الضم بين الأول من يوليو والثالث من نوفمبر

الضم بين الأول من يوليو والثالث من نوفمبر

تكثّفت في الآونة الأخيرة الضغوط والتهديدات والنقاشات، والمداولات والاتصالات، بشأن مشروع ضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، لتتدحرج باتجاه شخص واحد، بيده الحسم حول كيفية وتوقيت وحجم الضم، وهذا الشخص هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
صحيح أن القرار بيده، لكنّ يديه مكبّلتان بالتزام سياسي واستراتيجي، بالقيام بالضم، بالتنسيق والاتفاق الكامل مع الولايات المتحدة، وباتفاقية موقّعة مع شريكه غانتس، بأنّه يستطيع، بعد الأول من، أن يطرح على الحكومة والكنيست مشروع الضم، فقط بعد الحصول على الموافقة الأمريكية. الولايات المتحدة من جهتها تسعى إلى أن يكون الضم ضمن اتفاق بين نتنياهو وغانتس، وعقد سفيرها اليميني المتطرف ونصير المستوطنين، ديفيد فريدمان، سلسلة اجتماعات معهما، للتوفيق بينهما بشأن الضم، ولم يفلح في ذلك. من هنا فإنّ تصريح غانتس بأنّ تاريخ الأول من يوليو ليس مقدسًا، وأن الضم يجب أن ينتظر حتى الانتهاء من أزمة كورونا الصحية والاقتصادية، الذي جاء بعد لقاءات مع وفد أمريكي، قد يكون مؤشّرًا بأنّ الولايات المتحدة تريده أن يقول ذلك وتريد التأجيل.
من المؤكّد أن نتنياهو لن يطرح الضم ضمن موافقة رسمية على خطة «صفقة القرن»، فمن المستحيل تمرير قرار من هذا النوع في إسرائيل لأسباب سياسية وقانونية. من الناحية السياسية غالبية اليمين تعارض بنودا مركزية في الصفقة، وبالأخص مصطلح «دولة فلسطينية»، وترفض بشدّة «التنازل» عن مناطق في النقب، ورد ذكرها في صفقة القرن، معدّة للإخلاء في إطار مبدأ تبادل الأراضي. أمّا من الناحية القانونية فإنّ أي قرار بالتنازل، أو حتى إبداء الاستعداد للتنازل عن «أراض تحت السيادة الإسرائيلية»، يحتاج إلى أغلبية 80 عضو كنيست، أو إلى استفتاء للرأي العام، ولا توجد في الكنيست حتى أغلبية عادية، تصوت لصالح صفقة القرن كرزمة واحدة.
وعليه، من المرجّح أن يلجأ نتنياهو إلى طرق التفافية، معلنًا ضم مناطق استنادًا إلى خطة ترامب، وأنّه مستعد للتفاوض مع الفلسطينيين على أساسها، بدون أن يعلن موافقته الرسمية عليها. هكذا فعل بن غوريون عام 1948، حين أعلن عن إقامة دولة يهودية، استنادًا إلى قرار التقسيم، بدون أن يلتزم بالموافقة على القرار نفسه، ولكن ما يتردد بوقاحة في الرواية الإسرائيلية، أن إسرائيل وافقت، والفلسطينيين رفضوا قرار التقسيم. وبالوقاحة نفسها، تشنّ أبواق الدعاية الإسرائيلية هجومًا على الشعب الفلسطيني وقياداته، بادعاء أنّهم يرفضون نعمة «صفقة القرن»، وكأنّ إسرائيل توافق عليها. أكثر من ذلك، المفارقة في السياسة الإسرائيلية اليوم هي أن كل من يؤيّد الضم، يعارض خطة ترامب، ومعظم معارضي الضم يوافقون عليها. لقد سعى اليمين الإسرائيلي لاستصدار صفقة القرن كقاعدة وكسند لمخطط الضم، وكوثيقة داعمة تمنح الشرعية للمشروع الكولونيالي الصهيوني، على غرار «وعد بلفور». ومع أنّه لا يقبل بها إلّا أنّه يستغلّها في مسعاه لمحاصرة الوجود الفلسطيني، ونزع بعده السياسي تمامًا.
يجب عدم الاستهتار بهذا المسعى الإسرائيلي، إذ أن «صفقة القرن» هي أسوأ وأخطر وأفظع مشروع حل في تاريخ القضية الفلسطينية، والضم هو أحد بنوده وبقية بنوده لا تقل سوءًا وخطورة.
لدى نتنياهو عدة اعتبارات تؤثّر في قراره بشأن الضم، وفي مقدمتها أنه يريد أن يسجّل لتاريخ الشعب اليهودي ولتاريخه الشخصي والعائلي، أنّه قام بتوسيع حدود الدولة العبرية، وهو يريد أيضًا أن يستثمر مشروع الضم لزيادة قوّته السياسية، للبقاء في السلطة، وشقّ الطريق للإفلات من ملفّات الفساد القائمة واللاحقة. هو يسعى بشك محموم إلى استغلال ما يسميه «الفرصة التاريخية»، التي تبدأ يوم الأول من يوليو، ولن تعود إذا لم يعد ترامب إلى البيت الأبيض بعد الثالث من نوفمبر هذا العام. في المقابل لا يستطيع أن يتجاهل الضغوط التي تدعوه لفرملة العمل على الضم، فالأجهزة الأمنية الإسرائيلية متحفّظة، والمؤسسة الاقتصادية متوجّسة، والمحكمة الدولية بالمرصاد، والأردن غاضب ويهدد، والسلطة الفلسطينية تلوّح بتسليم المفاتيح وتلغي التنسيق الأمني، والدول العربية «الصديقة» تطلب منه عدم إحراجها، وأوروبا تضغط وتعاتب، وشركاؤه في الحكومة يضعون الشروط. كل هذا يثير قلقه، لكنّه لا يردعه ولن يدعه يتراجع عن مشروعه، بل يجعله يسعى لتنفيذه بالتقسيط على مراحل لا أكثر. نتنياهو ليس قويًّا كما يعتقد البعض، وكل ما هنالك أن الضغط عليه ضعيف. تاريخه السياسي يدل على أنه يخضع للضغوط، حين توجه نحوه ضغوط جدّية، ولكنّه ومن حوله يعتقدون أنّهم قادرون على امتصاص الضغوط عبر الضم بالتقسيط وليس بالدفعة الواحدة. في نهاية المطاف، والأهم من كل ذلك هو أن قرار الضم، قرار أمريكي إسرائيلي، مرهون بالتفاهمات بين نتنياهو وترامب، ولكل ما عدا ذلك تأثير معيّن لكن الحسم سيكون في واشنطن.
يبدو أن حماس الإدارة الأمريكية لضم 30% من أراضي الضفة الغربية لإسرائيل، كما ورد في «صفقة القرن»، قد خفّ في الآونة الأخيرة، بعد أن تبيّن لطاقم ترامب، أن هذا الضم لن يزيد من تأييد المسيحيين الإنجيليين، الموالين بغالبيتهم لليمين الإسرائيلي، ولن يجعلهم أكثر اندفاعًا في تأييد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ورغم أن ما يهم ترامب هذه الأيام هو إعادة انتخابه، فإنّ ذلك لم يؤدّ إلى تراجعه هو وإدارته عن مشروع الضم، بل جعلهما أكثر انفتاحًا، وإصغاءً لاقتراحات العدول عن دعم تنفيذ مشروع الضم من طرف واحد، وعلى الأقل عدم الموافقة على تطبيقه دفعةً واحدة.

«صفقة القرن» هي أخطر مشروع حل في تاريخ القضية الفلسطينية، والضم هو أحد بنوده وبقية بنوده لا تقل سوءًا وخطورة

ليس هناك في الإدارة الأمريكية من يعارض الضم كمبدأ، والنقاش فيها يدور حول تفاصيل المساحات والمواقع والتوقيت، حيث يضغط السفير الأمريكي في إسرائيل دافيد فريدمان على ضم أوسع منطقة بأسرع وقت، في المقابل هناك في الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتهم صهر الرئيس ومستشاره جيرارد كوشنير، من يدعو إلى التريّث والتدريج والاكتفاء بخطوة ضم «محدودة»، والأخذ بعين الاعتبار مواقف بعض الدول العربية، ومصير صفقة القرن، كمشروع للحل، ورأي قادة حزب «أزرق ابيض»، شركاء نتنياهو في الحكومة. إسرائيل مطمئنّة بأنّ الرد العربي الرسمي على الضم سيكون ضعيفًا وباهتًا، ولن يغدو كونه «ضريبة كلامية» ولن يكون أكثر من إدانة وشجب، ولن يتعدّى ردة الفعل على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الامريكية إليها. الدول العربية تعارض الضم لأنّه يحرجها، ولكنّها تريدها معارضة بلا ثمن تحفظ لها «الصداقة» مع الولايات المتحدة والعلاقة، لمن له علاقة، مع إسرائيل. لقد وجّهت بعض الدول العربية رسالة إلى الإدارة الأمريكية مفادها، أن تنفيذ الضم سيقضي على مشروع «صفقة القرن»، ولن تستطيع أي دولة عربية أن تجاهر بالقبول به أساسًا للمفاوضات حول مستقبل قضية فلسطين. لم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى هذه الرسائل للالتفات إلى هذا الأمر، فداخل الإدارة نفسها، هناك من يعارض التوقيت، ويريد استنفاذ «صفقة القرن» عبر محاصرة السلطة الفلسطينية، وتجييش ضغط عربي عليها لإجبارها على القبول بالتفاوض، على أساس خطّة ترامب. لقد بدأ هذا الضغط العربي بالوكالة منذ الإعلان عن «صفقة القرن»، عبر إغراء القيادة الفلسطينية بزيادة المعونات الاقتصادية من جهة، والتهديد بقطع ما هو قائم منها. هناك دول عربية مستعدة أن تدفع فلسطين ثمنًا لاسترضاء السيد الأمريكي ووكيله الإسرائيلي، وهي تدعو الولايات المتحدة للتراجع عن دعم الضم، ليس دفاعًا عن الحق الفلسطيني بل لأنه يحرجها في دعم مخطط «صفقة القرن» بمجمله.
لقد تجاوز الموقف الأردني المواقف العربية المعهودة، حيث جرى التأكيد فيه على أن الضم سيؤدّي إلى مواجهة، وعدم استقرار، وحتى إلى انهيار اتفاقية السلام معه. ما يخشاه الأردن، أن الضم سيغلق باب إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ويفتح باب مشروع «الوطن البديل»، الذي هو المشروع الحقيقي لليمين الإسرائيلي، حتى لو لم يعد يجهر به، كما في الماضي، حفاظًا على العلاقة مع الأردن. لقد أدّى الضغط الأردني إلى تجميد مؤقّت لضم غور الأردن، لكنّه لم يفلح في إلغاء مشروع الضم بمجمله. لم ينته دور الأردن هنا، بل المطلوب الآن هو زيادة التنسيق الفلسطيني الأردني في التصدي للضم، ولصفقة القرن، وجر الدول العربي لاتخاذ مواقف حاسمة وعدم الاكتفاء بدور المتفرج.
ليس مشروع الضم من نوع المبادرات السياسة السابقة، التي كانت تتطلب موافقة فلسطينية، وكان بالإمكان إفشالها عبر «لا» النافية للإذعان. هذا مشروع من طرف واحد امريكي إسرائيلي، ومواجهته لا تقتصر على النشاط الدبلوماسي وعلى التهديد بانهيار السلطة وتسليم إسرائيل المسؤولية عن الحكم المباشر للضفة الغربية. المفتاح لإنهاء الاحتلال وتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، سواء مع الضم أو بلا ضم هو المقاومة الشعبية للاحتلال. المشكلة الكبرى هي أن الجماهير الفلسطينية الواسعة فقدت ثقتها بالقيادة في الضفة وفي غزّة وهي لا تشعر بأنّ هذه القيادة تحمل مشروعًا ملهمًا يرتفع إلى مستوى التحديات الفعلية القائمة. حتّى الهجوم الأمريكي الإسرائيلي الكاسح المتمثل بصفقة القرن، وبمشروع الضم، لم يجعل القيادة المنقسمة على نفسها تتحرك باتجاه الوحدة، فكيف سيصدّق الشعب أنها قادرة على قيادته في هذه الأيام العاصفة. لقد أثبت الشعب الفلسطيني في كل المحطّات أنه مستعد للتضحية، ولكنّه اليوم أكثر وعيًا ولا يقبل أن تذهب تضحياته في مهب رياح الانقسام، وقلّة الحيلة السياسية، سواء كان ضما أم لم يكن، فقد وصلت القضية الفلسطينية إلى مفرق، فإمّا أن تغيّر القيادة نهجها أو أن تتغيّر.

جمال زحالقة

القدس العربي