حرب المياه الوجه الآخر للتدخل التركي في سوريا

حرب المياه الوجه الآخر للتدخل التركي في سوريا

بعد عشرة أعوام من الحرب في سوريا، اتضحت أهداف كل القوى الفاعلة هناك وعلى رأسها طهران وأنقرة. وعلى عكس الأهداف السياسية لإيران، فإن الأخطر من ذلك هو الدور التركي الذي يحمل علاوة على البعد الأيديولوجي الطامح لإحياء مشاريع الإسلام السياسي أبعادا اقتصادية تهدف إلى نهب ثروات سوريا وخوض حرب المياه في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الموالية لأنقرة. هذا بالإضافة إلى الصراع العرقي الذي تخوضه على الأراضي السورية والذي يظهر جليا في مواجهة الأكراد الأتراك والقضية الكردية عموما.

أنقرة- أدت حالة التفكك والفوضى التي تعيشها سوريا للعام العاشر على التوالي، إلى تحولها إلى ثغرة تسلل من خلالها المشروعان التوسعيان الإيراني والتركي على حد سواء. على حساب الأمن القومي العربي والإقليمي، المشروع الإيراني عبر تحالفه مع نظام الأسد في دمشق، والتركي عبر احتضانه العديد من تيارات المعارضة السورية والحالة الفصائلية العسكرية المتشرذمة.

الدور الإيراني واضح المعالم، غير أن الأخطر هو الدور التركي الملتبس الذي ومهما اختلفت سياسات الأطياف المتضادة في تركيا حوله، إلا أنها تعود وتتقاطع عند مسألة استعادة النفوذ التركي المفقود الذي يكاد يمر على انحساره اليوم أكثر من قرن من الزمان. حتى تحول هذا الملف إلى أبرز استثمار سياسي شعبوي لكسب الشارع التركي وشحنه والفوز في أي عملية انتخابية تجري في تركيا.

تصور تركيا لمستقبل الجار السوري، تصوّرٌ ضبابي يعكس ضبابية الرؤية السياسية لحزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تلك السياسة التي لا تريد ولا تستطيع الخروج من أوهام الإسلام السياسي، يضاف إليها العامل القومي الطوراني التركي الذي يظهر جليا في مواجهة الأكراد الأتراك والقضية الكردية عموما مهما تعددت المناطق التي تتحرك فيها.

أدى التدخل التركي في الملف السوري إلى خلق حالة عشوائية، لم تتمكن جميع المحاولات التركية من تغطيتها والتستر عليها، تبرز في جانب منها بالبعد الاقتصادي الذي أتاح نهب الموارد الطبيعية السورية في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الموالية لتركيا. بعد العمليات العسكرية التركية على امتداد خط الحدود التركية السورية التي تمتد لأكثر 800 كيلومتر.

كان أحدثها عملية “نبع السلام” التي خلقت قاطعا عسكريا في منطقة رأس العين، يسيطر على مياه منطقة الجزيرة السورية التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني.

ولم تراع تركيا الظروف الصعبة المترتبة على انتشار فايروس كورونا مؤخرا، رغم المناشدات الدولية، التي قالت إنه ينبغي على السلطات التركية “بذل كل جهدها لاستئناف توريد المياه من محطة ضخ المياه في علوك قرب رأس العين والتي تضم أكثر من 450 ألف سوري شمالي الحسكة، إضافة إلى ثلاثة مخيمات للنازحين”.

وقال ماكيل بيج نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش إنه وفي خضم وباء عالمي يثقل كاهل أنظمة حكم وبنى تحتية متطورة “قطعت السلطات التركية إمدادات المياه عن المناطق الأكثر ضعفا في سوريا”.

المعارض الكردي السوري المقيم في دبي وليد حاج عبدالقادر يقول في تصريحات خاصة بـ”العرب” إن “تركيا ومنذ بداية تشكل الدولة التركية وضعت نصب عينيها مسألة المياه، واستعملتها كورقة ضغط على جيرانها.

وليس بعيدا عنا التهديد بهذه الورقة في فترة مقايضة حافظ الأسد على تسليم عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، وقد أدت مجموعة السدود التي بنتها إضافة إلى المشروع الذي دشنه بشار الأسد في عين ديوار، إلى تحول نهر دجلة إلى ما يشبه الساقية الصغيرة وجاء اليوم دور نهر الفرات”. واستمرارا للسياسة ذاتها، تواصل تركيا تشييد وإدارة السدود على نهر الفرات بشكل جائر، ما تسبب بتراجع حصة السوريين من النهر إلى أقل من 25 في المئة من النسبة المتفق عليها دوليا. وهو أمر يحدث للمرة الأولى منذ توقيع الاتفاقيتين الدوليتين في العامين 1996 و1997 بين الدول الثلاث تركيا وسوريا والعراق. وأضخم تلك السدود اليوم هو سد أتاتورك في أورفة بالإضافة إلى سد إليسو على نهر دجلة الذي يعبر الأراضي السورية في طريقه إلى العراق. وهذا الأخير أدى بالفعل، إلى انحسار نسبة المياه في دجلة بنسبة 60 في المئة بسبب تشغيل عنفات الكهرباء.

الواقع الذي تفرضه تركيا في سوريا يتجاوز الأثر الاقتصادي إلى مفاعيل خطيرة للغاية، تصب في خلخلة البنية السكانية عرقيا وطائفيا، خلخلة تسببت بها المجازر والتجاوزات التي ارتكبتها وترتكبها بعض الفصائل العسكرية السورية التي تخضع للهيمنة التركية، سواء في إدلب أو عفرين، والتي كان من أبرز منفذيها كتيبة السلطان مراد المتهمة بخطف الأطفال والنساء. هذه الكتيبة المشكلة بالكامل من التركمان والتي لم تسلم منها حتى منشآت الطاقة والمرافق الإنشائية في المناطق التي تسيطر عليها.

كتيبة السلطان مراد واحدة من بين التشكيلات العسكرية الفوضوية التي تضم مقاتلين أجانب تعرضوا لعمليات غسل أدمغة، لم تستثن المواطنين الأوروبيين منهم والذين أتاحت لهم تركيا القتال في سوريا تحت رايات جهادية. قبل أن تقوم بإعادتهم إلى أوروبا ليشكلوا عبئا على مجتمعاتهم وتهديدا مستمرا بفضل تاريخهم الجهادي وأفكارهم المتطرفة، وليكونوا خلايا نائمة يمكن تحريكها في الوقت الذي تراه تركيا مناسبا.

وفتحت تركيا حدودها مع سوريا لتدفق المتطرفين والجهاديين من كافة بقاع العالم، وكانت المعبر الأوسع الذي تسلل منه عناصر داعش لتأسيس خلافتهم. ولم يتوقف الأمر عند حدود داعش، فقد كانت الحدود التركية السورية معبرا للعديد من التنظيمات المتطرفة التي خلقت بؤرا إرهابية في الشمال السوري، وعلى رأسها تنظيم جبهة النصرة ـ القاعدة، بزعامة الجولاني والذي يعمل بشكل مفتوح تحت الأنظار التركية في إدلب، متحكما بأمن وحياة الملايين من السوريين في المنطقة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد. منطقة تديرها المخابرات التركية بالكامل، ولا يصدق كثيرون أن تركيا عاجزة عن إنهاء تنظيم القاعدة وأشباهه هناك، متهمينها بالاستثمار في تلك التنظيمات وتحويلها إلى أوراق لعب على الطاولة مع الدول المعنية بالملف السوري.

وبدا الاستثمار التركي في حياة ومستقبل السوريين واضحا عبر تجنيد عناصر من الفصائل السورية وإرسالها للقتال في ليبيا، ما شوّه صورة السوريين ووجه إليهم سهام الاتهام بالعمل كمرتزقة في حروب الآخرين وترك بلادهم في حالة حرب. وسبق وأن صرّح أحمد المسماري المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي في وقت سابق أنّ “النظام التركي عمل على نقل نحو 17 ألف إرهابي من سوريا إلى ليبيا خلال الأيام الأخيرة”.

ويرى حاج عبدالقادر أن إرسال المقاتلين السوريين إلى ليبيا أمر “تتحمل مسؤوليته جماعة الإخوان المسلمين الذين نسجل عليهم قبولهم بتحويل السوريين إلى نوع من الرقيق، مقابل أوهام عودة الامبراطورية العثمانية والخلافة. وما فعله هؤلاء هو مسخ للسوريين الذين رفعوا شعارات الثورة إلى نوع من الخدم للسياسة التركية، وعلينا كسوريين أكرادا وعربا الوقوف ضد هذا الاستثمار الذي يعد جريمة لا تقل عن الاتجار بالبشر”.

أنقرة تنقلب على اتفاقيتين دوليتين وقعتا في العامين 1996 و1997 بين تركيا وسوريا والعراق

ويشتكي بعض السوريين من أن تركيا تمارس الضغوط على اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها وأولئك الذين يعيشون في مناطق الشمال، وتبتزهم للحصول على موافقاتهم بالسفر إلى ليبيا مقابل مبالغ مالية زهيدة.

ويقول حاج عبدالقادر إنه يقرأ الدور التركي، ليس انطلاقا من دور أنقرة في الشمال السوري وحسب، بل أيضا منذ بدايات الحرب السورية، ويضيف “منذ مأساة الزبداني والمعضمية وداريا وحمص وحماة وحلب وكل المناطق التي أعلنها أردوغان (خطوطا حمراء)، تبيّن أن الخط الأحمر الوحيد هو المصلحة التركية ومصلحة أردوغان وحزبه”. ويضيف “أنا كمواطن سوري، لا أتحدث ككردي فقط، أدرك أن تركيا تحلم باسترجاع ولايتي حلب والموصل، وحتى تحقق هذا الهدف فإنها تركز على أهداف معينة كالنفط والغاز وحيوية المنطقة وجملة القضايا التي تقايض بها أوروبا”.

ويتابع “ما يحدث في الشمال السوري، المناطق الكردية وغيرها، هي ممارسات شبيهة بممارسات الجيش الانكشاري العثماني، سلب ونهب واختطاف، كما حدث في آمد وديار بكر ونصيبين وغيرها، حتى أن لدينا شكوكا وجيهة في مسألة التفجيرات الإرهابية التي تحصل داخل مناطق النفوذ التركي، والتي قد يكون من يقف خلفها المخابرات التركية ذاتها، لتبقي المنطقة في حالة توتر وتحت تهديد من تسميهم بأعداء تركيا”.

ولم يتردد أردوغان بالتهديد بفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين خلال عملية “نبع السلام”، للعبور إلى دول الاتحاد الأوروبي، محولا الملف السوري إلى أداة وظيفية بيد الأتراك، يبتزون به الغرب، مقابل مكاسب سياسية في ملفات أخرى، غير بعيد عنها ما يتضمنه تحالفهم المعلن مع الإيرانيين.

العرب