نزلت عملية الاغتيال التي تعرض لها هشام الهاشمي مساء يوم الثلاثاء، في 6 يوليو (تموز)، كالنازلة على كل الذين يعرفونه ويعرفون حجم الخسارة التي أصابت الأوساط العلمية والسياسية والإعلامية والأمنية في العراق، والكثير من مراكز القرار الإقليمي والدولي. فالحادثة أعادت فتح جراح الخوف على كل العراق وكل من يحلم بأن يقول كلمة أو موقفاً حراً يبتعد عن الاستقطابات، مقدماً الاستقطاب الوطني على كل الأهواء والانتماءات بمختلف تلاوينها وأبعادها السياسية والعقائدية والجهوية الإقليمية والدولية وحتى المحلية الضيقة. فهو الذي فتح مساحة الوطن على الجميع مسقطاً كل الحواجز المفتعلة والمصطنعة لتخدم مصالح صغيرة تأكل من الجسد العراقي المنهك تحت الضربات التي نزلت به جراء سياسات شوهاء مارستها قوى تدعي تمثيل مكوناته بكل تنوعاتها الطائفية والمذهبية والاثنية والقومية والدينية.
لا شك أن اغتيال الهاشمي قد أصاب المشروع الذي يحمله رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وحمله إلى موقع القائد العام للقوات المسلحة بمقتل. لأنه قد يضع الكاظمي والدولة العراقية، التي تحاول النهوض على أنقاض خيبات العقدين الماضيين، في مهب الفوضى والتشظي والعودة إلى نفق الاحتراب الداخلي، الذي لن يكون ثمنه أقل من انهيار العراق ودخوله في أتون حرب أهلية تقطر الكثير من الدم. ومن غير المستبعد أن يشكل النزف الجديد نهراً، يكون ثالث النهرين بعد الفرات ودجلة ويتحول إلى شاهد على حلم وأحلام تبددت.
خسر الكاظمي أحد أركان رؤيته الأساسيين، صندوق أسراره من دون استعراض في الحوارات التي خاضها مع المكونات السياسية والمذهبية من أجل إقناعها بالدخول في مشروع وطني يقدم الخاص العراقي على العام الإقليمي، والوطني على الشمولي، وهي خسارة لا يمكن أن يحتكرها الكاظمي لنفسه، أو يصادرها العارفون بالهاشمي والذين عملوا أو كانوا على صداقة معه، بل قد تكون خسارة أكبر للأطراف التي ستفقد الوسيط بينها وبين مؤسسة رئاسة الوزراء وحتى بينها وبين أطراف معنية في الساحة العراقية، دولية وإقليمية، كان الهاشمي قادراً على التواصل معها وتقديم رؤية وطنية لا تقصي أحداً وتسهم في تخفيف حدة المواقف المتوترة أو المتصلبة التي قد تشكل خلفية كثير من المواقف التي تتعلق بالساحة العراقية وتطوراتها. باستثناء تلك القوى، التي تعيش على هامش المجتمع شعرت بالراحة وهي ترى الدم ينزف من رأس الهاشمي الذي صوب على تفكيرها الذي يفضح ما تراه في الدولة نقيضاً نوعياً لها وتهديداً وجودياً لمشروعها الفوضوي كـ”داعش” والفصائل الخارجة على القانون، لأنها تعتقد أن بقاء الهاشمي حياً وحيوياً في قراءاته وترصد خطرها، يشكل تحدياً لها ولاستمرار مشروعها، بعدما برع في تفكيك شيفراتها وأدوارها وأهدافها بدقة خبير لا يستعرض عندما يستهدف ببساطة ومباشرة جوهر مشاريعها التخريبية للدولة والمجتمع والاجتماع العراقي والعربي.
الهاشمي كان واضحاً في رسم الصورة وتوضيح الحقائق حول القوى والفصائل الخارجة على الدولة، وهو سبق أن أصاب تنظيم “داعش” في الصميم عندما فكك مبانيه الفكرية والأمنية والعسكرية والاستراتيجية، إلا أنه في الآونة الأخيرة، وبعد أن لمس إمكانية بلورة مشروع وطني يعيد للدولة مؤسساتها وموقعها ودورها ومحوريتها، رسم بشفافية الحدود الفاصلة بين القوى المنضوية تحت لواء الدولة والفصائل التي لا تحيا إلا خارج الدولة وعلى حسابها. ولعل دعوته للمكونات التي تنتمي إليها هذه الفصائل لاتخاذ موقف واضح وحسم خياراتها بالوقوف إلى جانب الدولة أو الذهاب إلى خيار اللادولة، هي التي عجلت في استهدافه لما في هذه الدعوة من خطورة على مشاريع هذه القوى في سعيها إلى المحافظة على بقائها ونموها خارج رحم الدولة والمجتمع. وهنا، لا فرق بين “داعش” والفصائل الشيعية التي تتراوح في انتمائها بين المؤسسة الرسمية للحشد الشعبي وبين تغليب ولاءاتها غير العراقية الخارجة عن المؤسسات الرسمية. فاستمرار هذين الفكرين يتعارض مع مفهوم الدولة القوية القادرة على المحاسبة وفرض سلطتها ومحاربة السلاح المتفلت.
من ناحية أخرى، وفي محاولة لقراءة الوجه الآخر لعملية الاغتيال، يمكن القول إن الطرف الإيراني الذي توجهت نحوه أصابع الاتهام الأولى مباشرة أو عبر الفصائل التابعة له عراقياً، قد يكون من أكثر الأطراف تضرراً من هذا الاغتيال، وحتى أكثر من الكاظمي نفسه. لأن طهران ستكون في موقف لا تحسد عليه في تعاملها مع الساحة العراقية وحكومة الكاظمي إذا استطاع الأخير توظيف هذا الاغتيال في السياق الذي يخدم مصالح الدولة العراقية ومؤسساتها بخاصة العسكرية والأمنية، فهي ستكون أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما أو لا منطقة رمادية بينهما، فإما أن تلتزم بما تعلنه من دعم للعملية السياسية وتعزيز دور المؤسسات العراقية وإنهاء ازدواجية السلاح والأمن من خلال مؤازرة جهود الدولة في تحول هيئة الحشد الشعبي وقواته إلى قوات خاضعة للقانون، وإما أن تذهب إلى خيار بعض الفصائل التي اختارت التردد بين المؤسسة الرسمية للحشد وبين الاحتفاظ بعملها كفصائل خارج الدولة ومظلتها، وما يستدعيه ذلك من تشديد عملية إضعاف الدولة لصالح القوى السياسية المختلفة التي ترى في عودة السلطة لممارسة دورها الوطني وعملية بناء الدولة نقيضاً لها ولمصالحها القائمة على الفساد والمحاصصة والصراعات التي لا تأخذ المصالح الوطنية والقومية في الاعتبار.
من هنا، يمكن القول إن عملية الاغتيال ستضع الطرف الإيراني أمام تحدي هذين الخيارين، وأن اعتماد خيار دعم الحكومة واعطاء قراراتها الشرعية في مواجهة الفصائل المتفلتة، يعني أن طهران قد تكون مدركة لخطورة تداعيات هذا الحدث، بالتالي بإمكانها أن تحوله إلى فرصة لتعزيز مسار التفاوض مع الأطراف الأخرى الدولية – واشنطن- من بوابة الاستقرار العراقي. وإما أن تذهب إلى خيار تبني سلوكيات الفصائل المناقضة لعودة الدولة وضبط السلاح المنفلت، وهذا يعني أن تتحول الساحة العراقية إلى حلبة مواجهة مفتوحة مع واشنطن وانسداد أفق أي تفاوض بينهما، بما فيها من أثمان سيدفعها العراق وأهله دماً يشهر أصبع الاتهام بوجه كل المتورطين في إراقته.
حسن فحص
العربي الجديد