المليشيات الإيرانية تسطو على آثار البوكمال السورية

المليشيات الإيرانية تسطو على آثار البوكمال السورية

تشكل مدينة البوكمال، في الجزء الجنوبي الشرقي من محافظة دير الزور شرقي سورية، والواقعة قرب معبر القائم الحدودي مع العراق، نقطة تمركزٍ استراتيجية للمليشيات الإيرانية و”حزب الله” الإيراني، وتعتبر عصب الإمداد الرئيسي لها. هذه المليشيات، التي سيطرت بالكامل على المدينة والمناطق المحيطة بها، بدأت أخيراً بعمليات تنقيب عن الآثار فيها، متسببةً بخرابٍ كبير، وطمس معالم تاريخية تعود إلى آلاف السنين في المنطقة، إلى جانب إشرافها على عمليات تهريب ونقل لهذه الآثار إلى خارج سورية. ومنذ نحو شهرين، بدأت المليشيات الإيرانية بعمليات تنقيب عن الآثار في منطقة البوكمال، طورتها ووسعتها لاحقاً مستخدمةً الجرّافات وآليات مخصصة للحفر، وهي تستعين في ذلك بعمال محليين، تقوم على تشغيلهم وفق نظام الورديات بأجور زهيدة.
من العشوائية إلى التمرس في النهب
وفي التفاصيل حول هذه العمليات، أوضح الصحافي من دير الزور، زين العابدين العكيدي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “قضية نهب الآثار وتهريبها من المنطقة قديمة، ومارسها النظام السوري حتى قبل العام 2011″، مضيفاً أنه “بعد انطلاق الثورة، بدأ عناصر ومجموعات من المدنيين لا ينتمون إلى أي فصيل مسلح بالقيام بعمليات تنقيب فردية، مستخدمين أساليب عشوائية”. ولفت الصحافي السوري إلى أنه “بعد سيطرة تنظيم داعش على المنطقة، توسعت عمليات التنقيب والبحث عن الآثار، حيث أنشأ التنظيم جهازاً يسمى ديوان الركاز، لهذه المهمة فقط”. ومن المواقع التي تمّ التنقيب فيها، وفق العكيدي، الرحبة في منطقة الميادين، ومدينة دورا أوروبوس في الصالحية، وآثار مملكة ماري قرب مدينة البوكمال، وآثار حلبية وزلبية شمالي غرب دير الزور قرب قرية التبني، وأيضاً موقع دور كاتليمو في قرية الشيخ حمد، وكذلك مواقع عديدة في منطقة الرقة.

بدأت منذ شهرين عمليات التنقيب بشكل علني في منطقة البوكمال ومحيطها

وأضاف العكيدي أنه “في نهاية عام 2017، ومع سيطرة قوات النظام على أجزاء من محافظة دير الزور وخصوصاً مناطق الشامية، تطور ملف نهب وتهريب الآثار، لتبدأ منذ شهرين عمليات التنقيب بشكل علني”. وحول ذلك، أوضح الصحافي أنه “في 18 مايو/أيار الماضي، بدأت عمليات الحفر بشكل مكثف من قبل مليشيا الحرس الثوري الإيراني وحزب الله”، مذكراً أن “مدينة البوكمال تخضع فعلياً اليوم لسيطرة المليشيات الإيرانية، أما قوات النظام فتنتشر في الفرقة 17 في البادية، والفرقة الرابعة في ريف البوكمال”. وأكد العكيدي أن عمليات التنقيب حالياً تتركز على آثار مملكة ماري قرب منطقة السيال، وآثار دورا أوروبوس، ويجري التنقيب على شكل ورديتين (مناوبتين)، الأولى تبدأ في الثامنة صباحاً وتنتهي عند الخامسة مساءً، أما الوردية (المناوبة) الثانية فتبدأ في الساعة الخامسة مساءً وتنتهي في التاسعة ليلاً”. وأشار الصحافي من دير الزور، في هذا الصدد، إلى أن عمليات التنقيب “تتم بإشراف وحماية المليشيات الإيرانية، ويمنع اقتراب أي شخص من مواقع التنقيب حتى لو كان عسكرياً، ويشرف على هذه العمليات قيادي في حزب الله من مدينة حمص، ملقب بأبو الصافي”. وبحسب العكيدي، فإن قادة المليشيات يعتمدون في التنقيب على مدنيين يعيشون في المنطقة، وهؤلاء يقومون بذلك لسدّ الفقر والحاجة، وهم رجال كبار في السن وحتى أطفال، يجنون مقابل الوردية (المناوبة) 3000 ليرة سورية (1.17 دولار)”.

وكانت عمليات التنقيب، كما فسّر العكيدي، تتمّ بداية بشكل يدوي، إلا أنها تطورت حيث تجري الاستعانة بالمتفجرات والجرافات، وغيرها من المعدات، ما أدى إلى تدمير مدن أثرية بشكل كامل، ومنها دورا أوروبوس التي تحولت إلى أنقاض، وكذلك آثار مملكة ماري، ومنها القصر الملكي وقصر “زمري ليم”. وفي هذا الإطار، أكدت مصادر خاصة تحدثت لـ”العربي الجديد”، أن معالم مملكة ماري طُمست بشكل كامل بسبب عمليات الحفر والتنقيب، بعدما كان سبق أن تعرضت للتخريب على يد “داعش”، مؤكدة أن الوضع آخذ في التفاقم اليوم.
ولفت العكيدي إلى أن مناطق التنقيب تخضع لحراسة مشددة من قبل عناصر المليشيات الإيرانية، كونها منطقة نفوذ لها. أما بالنسبة للآثار التي تنهب، فيجري نقلها عبر طائرة تابعة لشركة طيران سورية، تقوم أيضاً على نقل عناصر المليشيات للتبديل كل 8 أيام. وبحسب علم العكيدي، فإنه غالباً ما يتم نقل الآثار المهربة إلى لبنان.
المليشيات الإيرانية مسيطرة
وتنتشر المليشيات الإيرانية في مواقع استراتيجية في المنطقة. وحول هذه المناطق، قالت مصادر خاصة إن أهمها قاعدة حقل الورد النفطي في محيط البوكمال، والتي تعتبر تجمّعاً لمليشيات عراقية وأخرى إيرانية، كما أن هناك مجمّع المقار العسكرية في الجلاء، وهو مجموعة من النقاط والمقار العسكرية الإيرانية في منطقة الجلاء التي تقع بالقرب من المنطقة الأثرية دورا أوروبوس في محيط البوكمال.
كما تتركز المليشيات الإيرانية في قاعدة “تي 2” أو “الكم” في البادية المقابلة للبوكمال، وهي الأقرب للقواعد الأميركية، ويوجد أيضاً على مقربة منها جيب لتنظيم “داعش”. ومن المواقع التي تسيطر عليها هذه المليشيات كذلك، قاعدة المطار العسكري، وهي قاعدة مشتركة بين الفئات المدعومة من إيران، وعلى رأسها “حزب الله”، وقوات من الجيش الروسي، حيث يستقر خبراء عسكريون روس في المطار بشكلٍ دائم، بالإضافة إلى قواعد معسكري الصاعقة والطلائع، وهي أكبر تجمّع للمليشيات الإيرانية داخل مدينة دير الزور، وتقع بالقرب من مبنى المحافظة وحي الجورة، وهي في المجمل معسكرات تدريب وتجميع لمقاتلي المليشيات ومنطلق باتجاه المنطقة الوسطى.
ومن أهم القواعد العسكرية التي تتمركز فيها المليشيات الإيرانية قاعدة عين علي، وتقع في بادية مدينة القورية في الريف الشرقي، وقد أنشأت مليشيا “فاطميون” فيها مزاراً دينياً. وإلى جانب أهمية هذه النقطة عسكرياً، فإنها أيضاً تعد مركزاً لتجمع الحجاج القادمين من إيران والعراق باتجاه سورية. أما ما تبقّى من مقار عسكرية وأمنية في المدن الرئيسية، فتتوزع بين حواجز تفتيش تتركز في الميادين والعشارة، وأحياء العمال والموظفين داخل دير الزور، إضافة إلى وجود إيراني داخل الأفرع الأمنية التابعة للنظام في أحياء الجورة والقصور والرواد داخل المدينة.

تشرف المليشيات الإيرانية عبر قيادي في “حزب الله” على عمليات التنقيب ويمنع أي شخص من الاقتراب من مواقعها

وفي الثاني من يونيو/حزيران الماضي، أصدرت جمعية حماية الآثار السورية تقريراً رصدت فيه حجم الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية والمتاحف في سورية، مبينة أنه يوجد نحو 55 مؤسسة ثقافية (في سورية) تعنى بحفظ الإرث الثقافي السوري، من بينها 49 متحفاً، ومستودع ضخم لحفظ اللقى الأثرية، و5 دور عبادة تحوي لقى أثرية وتاريخية. وجاء في التقرير أن 29 من أصل هذه المؤسسات، لحقت بها أضرار بسبب العمليات العسكرية، منها متاحف تدمر ومعرة النعمان والرقة، والتي تعرضت لضرر جسيم، بينما تعرضت متاحف درعا ودير الزور لأضرار طفيفة، وذلك منذ العام 2011 وحتى اليوم.
وبحسب التقرير، فإنه منذ عام 2011، تمّت سرقة 40635 لقى أثرية وتاريخية وتراثية من المواقع المذكورة، وهذا الرقم يستند إلى التقارير والمعلومات الموثقة لدى الجمعية. ولفت التقرير إلى أنه من ضمن الـ29 مؤسسة التي تعرضت للنهب، لم تؤخذ بعين الاعتبار لدى الوصول إلى هذا الرقم، 10 متاحف ودور عبادة تعرضت للنهب، بسبب عدم معرفة عدد القطع المنهوبة منها. كما أن الرقم من اللقى المنهوبة لا يشمل آلاف القطع غير المسجلة في قوائم ودفاتر 19 متحفاً تعرضت لعميات نهب وسرقة، ولا عشرات الآلاف من اللقى التي نهبت من المواقع الأثرية السورية خلال عمليات الحفر العشوائي منذ عام 2011، مثل أفاميا، دورا أوروبوس، تدمر، وإيبلا.

عبدالله البشير

العربي الجديد