لم يأتِ رئيس الأركان الأميركي المغادر الجنرال ريموند أوديرنو بجديد، عندما صرح الأسبوع الماضي بأن تقسيم العراق قد يكون الحل الوحيد لأزمة البلد الذي تمزقه الصراعات، وغادره الاستقرار منذ زمن، ولكن بشكل أكثر وضوحًا وأشد خطورة منذ الغزو الأميركي عام 2003. هذا لا يعني أن الجنرال أوديرنو الذي عمل في العراق ثلاث فترات متقطعة منذ الغزو، على حق في كلامه بأن التقسيم قد يكون الحل، لأن التقسيم سيقود على الأرجح إلى المزيد من الدماء والدمار، والاقتتال الداخلي والتدخلات الخارجية، ناهيك بتأثيراته على الصراع الطائفي والإثني، والتجاذب الإقليمي. لكن المقصود بأن الرجل لم يأتِ بجديد، هو أن العراق أصبح بلدًا مقسمًا بالأمر الواقع، وبنظام المحاصصة الطائفية والحزبية الذي يحكمه، وبالحروب التي تمزقه، وبالانتهازية السياسية التي تمارسها غالبية الطبقة السياسية.
الحديث عن التقسيم لم يعد أمرًا جديدًا على أي حال، فقد طرح عدة مرات حتى قبل الغزو الأميركي الذي يراه كثيرون مسؤولاً عن وضع العراق على سكة التمزق، وعن تأجيج الصراع الطائفي فيه. هنري كيسنغر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، طرح التقسيم منذ سبعينات القرن الماضي، كذلك تبناه أقطاب بارزون من «المحافظين الجدد» في أميركا، وروجوا له قبل اتخاذ جورج بوش الابن قرار الغزو، وبعده. هناك أيضًا مشروع جو بايدن (نائب الرئيس الأميركي الحالي) الذي أطلقه عام 2006 عندما كان عضوًا بمجلس الشيوخ لتقسيم العراق على أساس إثني وطائفي وتبناه المجلس عام 2007، باعتباره وسيلة لتسريع سحب القوات الأميركية ولتجنب «صراع طائفي يمكن أن يزعزع المنطقة بأسرها»، كما قيل وقتها.
الملاحظ أن تصريحات أوديرنو لم تثر الجدل الحاد الذي كانت تقابل به مثل هذه الطروحات في السابق، وهذا قد يعود إلى أن الناس اعتادوا الأمر بعد أن تكرر، أو لأنهم باتوا يرون أن ما يحدث في الواقع هو التقسيم بعينه وإن لم يكن رسميًا، وأن ممارسات سياسييهم أسوأ من كلام بعض السياسيين أو العسكريين الأميركيين، لأنها مزقت البلد طائفيًا وسياسيًا، وأفقرته معيشيًا واقتصاديًا، وحولته إلى مرتع للارتباطات والتدخلات الخارجية.
مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي سارع إلى انتقاد تصريحات أوديرنو ووصفها بأنها «غير مسؤولة وتعبر عن جهل بالواقع العراقي». الانتقاد مفهوم لا من منظور أنه يأتي من رأس الحكومة التي لا بد أن تسجل بحكم الواجب إدانتها لمثل هذا الكلام، بل لأن العبادي شرع لتوه بمشروع إصلاحات يهدف إلى الحد من المحاصصة السياسية، ولذلك يرى أن مثل هذه التصريحات تعتبر ضربة لجهوده، وتبدو وكأنها حكم عليها بالفشل. من هنا يتفهم المرء وصف تصريحات أوديرنو بأنها غير مسؤولة، لكن في المقابل فإن اعتبارها جهلاً بالواقع العراقي يبدو محاولة غير موفقة من رئيس الوزراء للقفز على ما يراه العراقيون وغيرهم ماثلاً أمام أعينهم. فالعراق ممزق على الأرض، ومقسم بالممارسة السياسية وبالمحاصصة الطائفية التي قننها دستور ما بعد الغزو الذي يجعل مشروع العبادي مجرد نفخ في قرب مثقوب.
منع تقسيم العراق أو المضي فيه مرهون بالعراقيين أنفسهم وما إذا كانوا سيعودون عن الطريق الانتحاري الذي يسيرون فيه، أم أنهم سيمضون فيه فيضيعون بلدهم، وينتهي بهم الحال إلى التقسيم الرسمي الذي لن يكون نهاية الآلام والدماء، أو في أحسن الأحوال إلى تكرار التجربة اللبنانية التي مزقت هذا البلد الصغير، وحرمته من نعمة الاستقرار، وجعلته ساحة للتدخلات الخارجية وللصراعات الإقليمية. حتى الآن لم يقدم السياسيون العراقيون، أو فلنقل من أجل الإنصاف والدقة غالبيتهم، ما يبعث على الثقة أو الطمأنينة بأن العراق سيتعافى سريعًا، أو أنه سيتعافى أصلاً ولن ينتهي إلى التقسيم تحت وطأة الشحن الطائفي المتصاعد، والعجز السياسي، والفساد، وتقوية الميليشيات على حساب الجيش، الذي أضعفته الحسابات السياسية والتغلغل الطائفي.
الدول لا تتفكك من فراغ، بل يحدث الأمر نتيجة ممارسات ومظالم تتراكم تحت أو فوق السطح زمنًا طويلاً، قبل أن تنفجر وتشعل نار الصراعات أو الحروب، التي يمكن أن تقود إلى التقسيم، أو تبقى سببًا لصراعات مزمنة لا تنتهي، ولا يعرف الناس بعدها طعم الاستقرار. الحالة العراقية ليست استثناء، فالمظالم موجودة وأسبابها معروفة، والعراق مثل غيره من الدول العربية عاش ولا يزال مشكلة بناء الهوية الوطنية، وترسيخ مفاهيم التعايش، والحوار، والمشاركة، والتداول السلمي الديمقراطي على الحكم. لكن بدلاً من أن ينبري ساسة العراق اليوم لمعالجة هذه المشكلات، فإنهم انغمسوا في صراع الكراسي، وانشغلوا بمغانم السلطة، وغذوا الشحن الطائفي، وشجعوا التدخلات الخارجية، وبذلك فإنهم يعتبرون مسؤولين عن دفع بلدهم أكثر في سكة التمزق والتقسيم. المصيبة، أن المخاطر التي تتهدد العراق، تهدد أيضًا دولاً أخرى في المنطقة، فمتى نصحو؟
عثمان ميرغني
الشرق الاوسط