جزء كبير من صورة «داعش» النمطية صنعها الإعلام الشره نحو «المغايرة»، أي محاولة إيجاد قصص وصور وأفلام وحوارات مختلفة واستثنائية مغايرة لما يتم تداوله عادة من أخبار لم تعد تشبع نهم المتابع المتعطش الذي يجد في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التقنية بدائل أسرع وأكثر تفصيلاً، وإن كانت في معظمها هوامش رديئة وغير موثقة على متن الأخبار الرئيسية التي تُستقى من الإعلام المرئي.
سباق الفضائيات المحموم بخلفياتها ومرجعياتها القيمية والأخلاقية المختلفة والمتباينة أحيانًا بحسب التوجه السياسي الذي تتبعه ساهم في تلميع «وحشية» الإرهاب باعتباره مادة مثيرة للدهشة، وبعد فترة يقع المرء فيما يُسمى «الإدمان الغرائبي»، في محاولة حثيثة لابتلاع أكبر قدر من الدهشة وأندريالين الفيديوهات المحظورة ولعل المتتبع لخطاب «الصورة» في مسيرة الإرهاب يعرف مدى الوحشية التي وصلنا إليها في تمرير منتجاته وصوره المقززة، مجرد صورة مقتول يبتسم كانت تكفي لتتحفظ القناة عليها، وإن كان مصدرها الإرهابي يمررها على أنها ابتسامة شهيد، والآن بات التفنن في كتابة التقارير عن الرؤوس المقطوعة والأجساد المسحولة مادة دسمة للإعلام الشره.
لماذا أقول هذا الآن؟ لأن حجم الإرهاب وتمدده لا تعكسه أخباره النمطية في مناطق التوتر، التي تخضع لمدى وجود المواد الإعلامية وفقًا لوكالات الأنباء والمراسلين، وأيضًا عدم وجود أي سيطرة أو تحكم تجاه المواد المرسلة من مناطق التوتر، وهو أمر متفهم.
إلا أن ولادة مجتمعات متطرفة في بنيتها الجغرافية والعشائرية والنمط الاجتماعي الذي تعيشه يجب أن يدق ناموس الخطر لدينا، فمعظم البلدان الإسلامية في أفريقيا الآن يحضر فيها تنظيم داعش تحت مسماه الناعم الدعائي «تنظيم الدولة الإسلامية» المزعومة، وهناك مجموعات وخلايا وكونتونات تتحدث عنها تقارير بحثية تحاول استقصاء تمدد الفكر الإرهابي حتى وإن لم يواجه مقاومة أو حوادث اصطدام بالسلطة مثلما هو الحال في مناطق التوتر المعروفة، كما أن الآلة الضخمة الدعائية للتنظيم تتجه الآن إلى بلدان جديدة ومناطق بكر (هناك أكثر من عشرين نشيدًا يدعو للانضمام لـ«داعش» بلغات غير حيّة، آخرها موجه للأقليات في الصين باللغة الإيغورية).
الأخطر الآن هو هذا التكتم بسبب الحساسية الكبيرة التي تواجه الدولة المصرية الجديدة في منطقة سيناء التي يعدها التنظيم أهم ولاية له في المنطقة، بسبب ذلك التناغم بين مجموعات متطرفة سابقة وعشائر لديها تعيش حالة اللادولة أو الأناركية الجديدة، وهي حالة بحاجة إلى المزيد من الرصد، وملخصها وجود مجتمعات لا تحمل بالضرورة الآيديولوجيا العنفية القتالية، لكنها بسبب وقوعها في الأطراف بعيدًا عن المركز تخضع لحالة تمرّد سياسي وتقبل لحضور أي جماعة عنفية تمارس معها دورًا تكامليًا، في محاولة الانقضاض على ما تبقى من مفهوم «الدولة» في تلك المناطق.
عدم الاعتراف بما يحدث في مناطق لم يسلط عليها الضوء الإعلامي أزمة أخرى تعني تمدد خطابات الظل، بدءًا من فلول الإسلام السياسي الذين قرروا التحول إلى الاستراتيجية الثورية، بالإضافة إلى تكتلات اجتماعية من شباب عاطل (نسبة البطالة ما بعد تضخم الإرهاب في المنطقة مخيفة)، وبالتالي يجب الحديث عنها كنتيجة وليست سببًا، هذا التحول يعني أننا لسنا أمام إرهاب طارئ يزول برحيل تلك المجموعات أو مواجهتها عسكريًا، وإنما بنشأة أجيال وخطاب مجتمعي يرى في الإرهاب مخلصًا من مواجهتها للدولة أو رغبتها في الانفصال أو تسريعًا لتلبية مطالبها، وهي خيارات كارثية لا يمكن لأي نظام سياسي السكوت عنه، لكن الهروب إلى الأمام عبر التشخيص الخاطئ للمشكلة وترحيلها إلى السياق الإقليمي خطأ آخر لا يقل عن السكوت الإعلامي عن المناطق غير الملتهبة والمثيرة للمشاهد.
يجب أن تتوقف وسائل الإعلام عن القول «ولاية سيناء»، فهذه جريمة بحق مصر والمصريين، فـ«داعش» و«أنصار بيت المقدس» وحتى المجموعات المتطرفة في سيناء المصرية لم يطلقوا رصاصة واحدة تجاه إسرائيل، كما زعموا في أهدافهم، وإنما يريدون الاستئثار بموقع استراتيجي يضمن لهم إشعال المنطقة وإدخال كل الأطراف الإقليمية والدولية إليها.
في سيناء، يحاول التنظيم خلق استراتيجيات عنفية جديدة يمكن أن تقدم لنا صورة نمطية لإرهاب المستقبل.. إرهاب الشوارع الذي تريد خوضه «داعش»، حيث يتم قطع الإمدادات عن القوات الحكومية والدخول في حرب شوارع وكمائن واستهداف منازل الشرطة داخل أحيائهم السكنية، وترويع الأهالي الذين عانوا مرارة التجاهل ويعيشون الآن كارثية تشرّب خطاب العنف الذي تحاول بعض القنوات له الترويج لنفسه من خلاله، فتقع في فخ «الترويج» للإرهاب ذاته. حفظ الله سيناء ومصر للمصريين!
يوسف الديني
صحيفة الشرق الأوسط