لن تتوقف التداعيات السياسية لقرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، لأن القرار ينطوي على جملة من الأهداف تتعلق بمن اتخذه ولماذا في هذا التوقيت، والرسائل التي يريد توصيلها لمن يهمهم الأمر، وهي ليست واحدة، حيث تتباين التفسيرات من دولة إلى أخرى، ومن جماعة دينية إلى أخرى، واستأنف أردوغان نشاطه الواسع في الكذب والتدليس وخاطب كل فئة باللغة التي تجيدها والطريقة التي تفهمها، ما يشي بأن الغاطس أكثر من الظاهر.
كتب على حسابه في تويتر باللغة العربية ما يؤكد أنه يسير على خطى حثيثة نحو تحقيق أحلامه بصبغة إسلاموية، وعازم على أن يصبح خليفة للجماعات التي تدور في فلكه، حيث استخدم لغة عاطفية توقظ المشاعر بشأن مقدسات بعيدة عنه، تحظى باهتمام فئة كبيرة من المسلمين لا تجد وسيلة ناجعة لاستردادها، فجاء وعزف عليها لحنا سياسيا يمكن أن يساعده على المزيد من الانتشار في صفوف الدهماء.
قال بلا مواربة “تحويل كنيسة آيا صوفيا من جديد بشارة نحو عودة الحرية للمسجد الأقصى.. بداية جديدة للمسلمين في كافة أنحاء العالم من أجل الخروج من العصور المظلمة.. لا يمثل عودة الأمل للمسلمين فقط، بل أيضا لكافة المظلومين والمضطهدين والمسحوقين والمستغلين.. هو سلام مرسل من أعماق قلوبنا إلى كافة المدن التي ترمز لحضارتنا بدءا من بخارى وصولا إلى الأندلس”.
يستند الرجل على شريحة من البسطاء هي المعنية بخطابه العام، بعد أن فقد لمعانه في نظر النخبة العربية التي كانت تسانده قبل اندلاع الثورات والاحتجاجات، وابتعد عنه كثيرون، ولم يتبق معه سوى جماعة الإخوان والمتشددين وطائفة من البسطاء والمستفيدين والمبتسرين.
يريد الرئيس التركي الاحتفاظ بمؤيديه واستقطاب من لديهم الاستعداد للانضمام إلى موكبه الفضفاض، انطلاقا من وازع ديني يبدو واضحا، لكن يكتنفه الكثير من الغموض، ويحاول اللعب بورقة المسجد الأقصى ليسبغ على نفسه صفة المنقذ والمخلص، وأن علاقته المتصاعدة مع إسرائيل تكتيكية، ولا ترمي إلى تحقيق أهداف خفية بشأن تطوير التعاون معها. هو يريد أن ينفي الاتهامات التي طالته حول تقديم المبررات الكافية لتقوم إسرائيل بتحويل الأقصى إلى كنيس يهودي رسميا.
يسكب إقحام الأقصى في معركة آيا صوفيا المزيد من الزيت على النار التي تحرق الفلسطينيين كل يوم وهم يدافعون عنه أمام الصلف الإسرائيلي، ويمنح المتشددين فيها فرصة ثمينة للضغط على الحكومة للإقدام على خطوة من هذا النوع قد لا تجد ممانعات إقليمية ودولية كبيرة، فالأنظار المنصبة على إسطنبول لن تبارحها لفترة.
فتح التعامل مع آيا صوفيا من هذا المنظور الديني الباب لدول أخرى يمكن أن تقدم على خطوة مماثلة مع مئات المساجد الإسلامية وتحويلها إلى كنائس ومتاحف، أو بمعنى أدق أجج معركة تجاوزها العالم الغربي، لكن أردوغان يمكن أن يجعل منها حصان طروادة الذي يمتطيه عندما تتزاحم عليه الأزمات في الداخل.
بدا الرجل متحضرا أكثر من اللازم على حساب الرئاسة التركية في تويتر، وحاول أن ينفي الاتهامات التي تلاحقه بتأجيجه الفتنة بين المسيحيين والمسلمين، والتعامل مع القرار بقدر من التسامح الإنساني، حيث كتب بالإنجليزية “أبواب آيا صوفيا ستكون مفتوحة للجميع.. بمكانتها الجديدة ستواصل التراث المشترك للبشرية، احتضان الجميع بطريقة أكثر صدقا وأصالة”.
يفضح التفاوت في المعاني والمضامين العربية والإنجليزية البون الشاسع بين لغتين أو خطابين سياسيين يستخدمهما أردوغان دوما، أحدهما صارم وحاسم، والآخر لين ومرن، ما يفسر قدرته على حشد طائفة من المسلمين حوله تتعلق بأهداب الخلافة وتعتقد أنه سوف يعيدها إلى مجدها الغابر، مستفيدا من الإحباط الذي ينخر في نفوس هؤلاء، والذي يجعلهم يصدقون الرجل ويركضون خلفه.
لوّح بورقة المسجد الأقصى كرمز ديني ودلالة على استدارته اللاحقة نحو تصفية الحسابات مع إسرائيل، وما هو أبعد، حيث لفت إلى بخارى والأندلس، أي أن خلافته ممتدة إلى الجذور الأولى، وقادرة على استعادة الأمجاد، الأمر الذي يلتقي فيه مع الخطاب الذي تتبناه تنظيمات متشددة منتشرة في أماكن مختلفة، فلا أحد يستطيع التفرقة بينهما بسهولة، لأن الرمزية التي يحملها كل طرف تلتقي عند مربع واحد.
يعلم الرجل أن قراره يضع هؤلاء في جعبته لتسخيرهم كيفما شاء في الصراعات والمناطق الملتهبة، في ظل طموحات متنامية في المنطقة العربية، ويجعله قدوة لهم، بصرف النظر عما تحمله تحركاته من زيف وخداع وأضرار يمكن أن ترتد على من قبلوا بتأييده طوعا وخوفا وطمعا.
يعيد إليه هذا التوجه جانبا من البريق الذي افتقده في الداخل التركي، فهو بحاجة إلى الاحتفاظ بكتلة حرجة من الإسلاميين لمواجهة التحديات التي تتناثر على جانبي الطريق، مع زيادة معدل التدهور الاقتصادي، وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في الشارع، وارتفاع عدد الخارجين عن طوعه من الشخصيات الفاعلة في الحزب، وقدرتهم على ممارسة نوع من المعارضة المزعجة له في الانتخابات المقبلة.
يفضح التفاوت في المعاني والمضامين العربية والإنجليزية البون الشاسع بين لغتين أو خطابين سياسيين يستخدمهما إردوغان دوما، أحدهما صارم وحاسم، والآخر لين ومرن
كذب أردوغان بالعربية والإنجليزية، كما يكذب بالتركية في أوقات كثيرة، فلا هو قادر على تحرير الأقصى والتمدد حتى بخارى والأندلس، ولا هو متسامح مع الآخر، فهو كتلة من الشرور السياسية التي تعتقد زيفا أنها تمتلك قوة خارقة، يمكنها الوصول إلى غاياتها النهائية بموجب خطاب مزدوج ملتو لم يعد خافيا على من يتعاملون معه.
لن تكون آيا صوفيا ورقة رابحة لأردوغان، مع ردود الفعل الغاضبة من الخطوة، وربما تكون القشة التي تنال منه سياسيا، ومن كل الذين راهنوا عليه في المنطقة العربية، فالمنطق الذي يستخدمه لتسويق طموحاته لم يعد مجديا، كما أن الدول الغربية التي صمتت عليه أو تهاونت مع أو شجعت تصرفاته، عليها أن تراجع نفسها، لأن النيران التي يشعلها سوف تحرق الكثيرين في الغرب والشرق.
يتغذى الرئيس التركي ومن يتحالفون معه على هذا النوع من الأزمات الشائكة التي تفجر إشكالات تاريخية لها علاقة بالشعوب قبل الحكام، حيث تتسع معها التوترات بما قد يصعب السيطرة عليها، وتصطحب معها نزاعات بينية، وتعود إلى النقطة المركزية التي يستند عليها أردوغان، وهي أن هناك دولة عثمانية كانت قوية ولها نفوذ وممالك في مناطق كثيرة، وما يقوم به مجرد إحياء لذلك، وهو ما ينجسم مع المفردات التي ترددت على ألسنة عدد من المسؤولين مؤخرا.
العرب