لا يمكن التعرف إلى أسرار السياسة فى دول الخليج العربية دون متابعة رواد تويتر الخليجيين. فبينما هناك قيود على حرية تعاطى الإعلام الرسمى مع الأوضاع الداخلية، فقد مكن تويتر الخليجيين من التغريد فى فضاء إلكترونى أقل رقابة من جانب الحكومات، مع سقف أعلى من الحريات الاجتماعية والسياسية والدينية.
واستبدل الخليجيون بنقص السياسة والديمقراطية وضعف المجتمع المدنى، فضاء رحبا من الشبكات الافتراضية مكنهم من تسريع التواصل الاجتماعى والارتواء من الظمأ المعرفى والمعلوماتي، والتعويض عن غياب الأحزاب والانتخابات والمجتمع المدني. وفى بعض الدول أصبح مغرد تويتر أشبه بـ«دولة متنقلة» لها جمهورها وشعبها، بينما حدودها مفتوحة لمن يريد أن يصبح أحد مواطنيها، وهو ما جعل بعض المغردين فى مركز النفوذ والتأثير الاجتماعى.
لقد تصدرت السعودية عام 2013 دول العالم فى نسبة المستخدمين النشطين لموقع تويتر، بنسبة 41% من إجمالى عدد مستخدمى الإنترنت فيها، متفوقة على الولايات المتحدة، التى بلغت فيها النسبة 23%، والصين 19%. ولقد وصل عدد التغريدات الصادرة من المملكة 5 ملايين تغريدة فى اليوم (150 مليون تغريدة شهرياً)، وتحتضن السعودية نحو 9 ملايين مستخدم لتويتر (أكثر من 50% من مجموع مستخدمى تويتر فى المنطقة العربية).
والآن هناك مغردون خليجيون تخطى عدد متابعيهم نصف مليون متابع، بما يعنى أن بعض المغردين تخطت متابعاتهم نسبة توزيع 10 أو ربما 20 صحيفة وجريدة خليجية شهيرة. ومن خلال هذه الحسابات يمكن للدول أن تتعرض لطلقات صواريخ ومدافع ثقيلة من النقد السياسى والاجتماعى اللاذع، وهو ما جعل دول الخليج تراقب هذه المواقع وتحاكم بعض المغردين.
على تويتر بالخليج سوف تجد النقد الاجتماعى والدينى والسياسى القاسى لكل الأوضاع الداخلية، وسوف تجد الهجوم الشخصى والأيديولوجي. والآن ما عليك بعد أن تسمع خبرا عن دولة خليجية سوى أن تفتح حسابات المغردين المشهورين لتجد تفاصيل الموضوع برمته، الأمر الذى قد لا تجده فى الصحافة والإعلام الرسميين.
تجربة الدكتور عبدالخالق عبدالله أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات، هى إحدى التجارب اللافتة لتأثير تويتر فى الخليج، ولقد سجل تجربته فى كتاب سماه «اعترافات أكاديمى متقاعد». وفيه يلفت الانتباه إلى تأثير تويتر شخصيا ونفسيا وحياتيا فى مجتمعات الخليج، حتى أن هذا الأستاذ الخليجى المرموق أصبح يفصل بين حياته ما قبل تويتر وحياته ما بعد تويتر، ويعتبر أن اقترابه من دخوله إلى عالم تويتر هو ميلاد جديد بالنسبة له.
لم يكن عبدالخالق عبدالله منذ سنوات قليلة سوى عالم سياسة تقليدى يكتب مادته على الكمبيوتر بصعوبة، فإذا به اليوم من أشهر المغردين فى الإمارات، مع ما يزيد على 50 ألف متابع. وفى كتابه سالف الذكر يؤكد عبارة تشير إلى مدى التحول الفضائى الإلكترونى العالمى وإدراكه له بالقول: «أخذ الافتراضى يزحف ويهرول ويكسب أرضا جديدة، حتى أنه ستكون البشرية قريبا فى وضع تجد أنه إذا لم يكن افتراضيا فهو ليس بواقعي، وإذا لم يكن له وجود فى العالم الافتراضى فليس له وجود أصلا) و(أنا افتراضى إذن أنا موجود). وعن نفسه يقول (حولنى الأيباد إلى مراسل افتراضى متجول أعمل بشغف دون مقابل)، ويعتبر أننا نمر الآن بمرحلة «لحظنة العالم»، حيث يصبح المدى الزمنى لانتشار الحدث هو لحظة وقوعه، وليس أياما أو ساعات.
لقد ساعد تويتر على تسريع التواصل الاجتماعى بالخليج، حيث يجد المواطن الخليجى بين ما ينشره فى بلده وما يرد عليه من البلد الخليجى المجاور فترة زمنية قصيرة، وهنا حوّل تويتر الخليجيين إلى مجموعات وكتل بشرية ضخمة تطرح قضايا حوارية تجد جميع أهل الخليج يتحدثون عنها فى خلال دقائق.
من إيجابيات تويتر أنه زاد جرعة العروبة فى الخليج، فكان حجم اهتمام الخليجيين بالثورات منقطع النظير، لقد تجادلوا فى كل القضايا العربية وعن ثورات تونس وليبيا واليمن وسوريا، واختلفوا وتباغضوا وكثيرا ما تشاحنوا وتصارعوا، وحذروا السلطات فى بلادهم من عدوى «الربيع»، وفى ذلك يقول عبدالخالق عبدالله أن «دول الخليج ليس لها تاريخ خارج التاريخ العربي.. وهى بالتالى ليست بمنأى عن الربيع العربى».
ولقد شغلت مصر حيزا مهما من متابعات الخليجيين على تويتر، خصوصا فى الأوقات التى كانت تزداد فيها سخونة الأحداث الداخلية، وكثيرا ما خاض مغردو الخليج معارك بينية وحروبا حامية الوطيس بسبب مصر ولأجل مصر، وفى الأغلب لم تختلف حواراتهم عن حوارات المصريين. صحيح أن نسبة منهم كانت مع الإخوان، إلا أن وجهة النظر المصرية الرسمية والشعبية كانت الأكثر طغيانا وتأثيرا، وكان الخليجيون واعين بخطورة الإخلال بالاستقرار السياسى للمحروسة، وأغرق بعضهم فى الحديث عن فضلها عليهم فى التعليم والعلم والثقافة والأدب والفن ومجمل القوة الناعمة لمصر. وفى ذلك يقول عبدالخالق عبدالله فى كتابه هناك قوى تود لمصر أن تغرق فى فيضانها، لكن التاريخ يشير إلى أن مصر كانت عبر الـ 3000 سنة تتعرض للفيضانات المتكررة وكانت تخرج أقوى مما كانت عليه كل مرة).
لم تكن نتائج عملية «توترة» السياسة فى الخليج إيجابية تماما، فقد شهدت ظواهر سلبية عديدة، من ذلك ازدياد النقد والتشهير والنميمة وأحيانا الشتائم والتنابذ بالألقاب بين الأفراد ومن بعض الأفراد ضد الدولة، وهو ما لا تجد معه السلطات بدا من الحكم بحبس بعض المغردين أحيانا، ليس فقط على قضايا سياسية، وإنما على قضايا اجتماعية، تضمن بعضها تجريحا شخصيا.
وفى أوضاع التفاعل وجها لوجه بين الأشخاص، قد يتعذر على الأغلبية مواجهة الآخرين بالسب والقذف فى مجتمع تقليدى قبلي، لكن وراء تويتر يتخفى الكثيرون مِمَن يريدون أن ينفثوا غضبهم ويصوبوا شتائمهم إلى كل شيء دون رقابة من قبيلة أو شخص أو سلطة. مع ذلك أدت كثرة استخدام تويتر إلى تكريس قيم التسامح إزاء طائفة جديدة من التعاملات ولغة مستجدة على مجتمعات الخليج.
(لم أعد أشك فى أن أسعد أيامى وأجملها هى الأيام المقبلة، وأكثر مراحل حياتى خصوبة هى ما تبقى من سنوات العمر. أرى كل شيء من حولى جميلا، فقد أهدت إليّ الحياة كل نعمها وهداياها حتى الذى يزعجنى بدأ يسعدنى سعادة الخالدين). بهذه الكلمات، أنهى عالم السياسة الإماراتى (المغرد) كتابه الذى يقع فى 300 صفحة، ليشير إلى الانعكاس النفسى لتويتر على عالم السياسة، وقرر فجأة التقاعد من العمل الأكاديمى الجامعي، والتحول إلى محاور ومحاضر عبر تويتر الذى أصبح أشبه بأكاديمية للمعرفة والوعي، مفتوحة على الدوام للمجتمع والشعب.
د.معتز سلامة
صحيفة الأهرام المصرية