سمعت من يقول إنه كان يجب على المؤسسة العسكرية المصرية عندما استدعاها الناس في مطلع الثورة لتحميهم من شرطة مبارك، أن تتحمل على الفور مسؤولية سد فجوة عدم الثقة التي تفصل بين الشعب من جهة وقوى الأمن الداخلي من جهة أخرى.
كان يجب أن تقدر وقتها أن الأجواء ملبدة بأفكار التغيير ونداءاته، وأن الشكوك المتبادلة بين القوى السياسية وشبابها بخاصة وبين بعض أجهزة الشرطة كانت تفاقمت لتصبح سبباً مباشراً من أسباب الثورة.
كان يجب أن تقدر أيضاً، من واقع تجارب الأمم الأخرى، أن الأصل في الأمن القومى هو وحدته، وأنه في ساعات تعرض وحدة الأمة للخطر، تتوقف أو تنحسر مسؤولية الفروع وتبرز وتسود مسؤولية الجذع، أي الجيش.
حدث هذا في تطورات آسيوية عديدة، منها للتمثيل وليس الحصر، أحداث كوريا الجنوبية في عام 1987، وأحداث ميدان تيانانمين في العاصمة الصينية في عام 1989 وأحداث بورما في 1998.
في الحالات الثلاث كان الجيش العنصر الحاسم في وقف الاحتجاجات والحد من سرعة تدهور العلاقة بين الشعب والشرطة، وفي حالتين على الأقل، كان للجيش الفضل في الانتقال بالأمة على الفور إلى مرحلة تنفيذ الرؤية القومية للنهضة كما تبنتها قوى الاحتجاج واختزلتها شعارات الثوار.
أسباب غير قليلة كانت ربما وراء صعوبة تكرار مصر لهذا النموذج الذي يضمن تحقيق التغيير «الثوري» المطلوب في إطار استمرارية الدولة، ويضمن في الوقت نفسه حلحلة تعقيدات العلاقة بين الشعب وقوى الأمن، فيزيح سحابة سوداء فرضت لسنوات حالة من التشاؤم المختلط بالاكتئاب والتوتر، وأثارت أمواجاً من الكراهية بين فئات المجتمع بل وبين مؤسساته.
الأسباب غير قليلة، ولكن أهمها أن مصر لم تكن قد مارست من قبل مبدأ خضوع كافة فروع الأمن الداخلي والخارجي لقيادة المؤسسة العسكرية القومية.
في مصر لا تخضع المؤسسات الأمنية كافة لنفس المعايير في التقييم والتمويل والتدريب والمكانة، وبخاصة في ظل وجود ثقافة موروثة تشجع على تناقض المصلحة واختلاف الأولويات وتنعش الطموحات السياسية لدى كبار الضباط.
ترتب على هذه الظروف أن توفرت لكل مؤسسة أمنية استقلالية تجاه الأخرى، كادت في فترات معينة تكون شبه تامة، لم يقلل من شأنها عمليات التنسيق البيروقراطي التي تجري عادة بين أجهزة الدولة في الأمور المشتركة.
لم يحدث إلا نادراً أن خضعت كافة قوى الأمن لقيادة عسكرية موحدة.
ربما كان للبريطانيين الفضل في البداية في الفصل بين القوى الأمنية، وربما كان لتوحد السلطتين السياسية والعسكرية لقيادة وتوجيه حاكم من أصل عسكري خلال الستين عاماً الماضية فضل آخر.
وعلى عكس الشائع يبدو أن الحكام يفضلون الاعتماد في أمنهم واستقرارهم وسلامة النخبة الحاكمة على قوى الأمن الداخلي، لاتصالها المباشر بالشارع ومصادر الاحتجاج وقوى المعارضة، وهذه يصعب عادة على الجناح العسكري رصد كافة حركاتها والتحكم في أنشطتها.
كان الرئيس مبارك، حسب معلومات بعض أركان حكمه، حريصاً على تأكيد هذا الفصل بين القوتين العسكريتين، وكان بشكل عام يفضل الاعتماد على قوى الأمن الداخلي إلى حد جعله يتجاهل تجاوزات عديدة كلفته هو وعائلته وحاشيته ثمناً باهظاً.
أعود فأقول إنه لو كانت المؤسسة العسكرية المصرية، ممثلة في مجلسها، استفادت من الفرصة التي قدمتها لها جماعات الثوار في الأيام الأولى للثورة، فتدخلت لإصلاح مؤسسة الأمن الداخلي، لوفرت على نفسها وعلى الثورة تضحيات كبيرة وجنبت البلاد أزمات خطيرة.
كانت وفرت علينا غزوات التيارات الدينية المتطرفة وهجماتها على أقسام الشرطة والسجون وفي النهاية إجبار المؤسسة العسكرية على التعامل معها مباشرة كقوة رئيسية من قوى الثورة.
لو أنها مالت إلى التغيير لوفرت علينا كوارث الصدام بين رغبة الشعب في التغيير ورغبة قوى الأمن في إدانة التغيير..
لا يمكن إنكار أن أفراداً، وربما جماعات، تأثرت مصالحها سلبياً بالثورة فانطلقت في حرب لا هوادة فيها ضد «التغيير». ولا يمكن إنكار أن بعض قادة المؤسسات البيروقراطية والإدارية والسياسية لن يغفروا للثورة أنها هددت مصالحهم وكشفت عن عيوب إداراتهم وعجز مؤسساتهم وفساد أخلاقهم. ولا يمكن إنكار أن إطلاق البلطجية لنشر الخراب وإشاعة أجواء الإرهاب بذر الخوف لدى الجماهير وقيادات الجيش من انفلات الثورة.
تبددت طاقاتنا الفكرية والسياسية منقسمين أحياناً ومتناحرين أحياناً أخرى نحارب كلمة التغيير أو ندافع عنها.
جرى في ظل أجواء الشك هذه واستخدام قوى الأمن لأسوأ عناصر النفاق اتهام الثورة بأنها جلبت على مصر والمنطقة بأسرها الخراب والفشل وأنها كانت من صنع دولة أجنبية وثمرة مؤامرة دولية.
غاب عن منظمي حملة تخوين الثورة أن نجاح مؤامرة أجنبية في تحريك شعب بأسره دليل صارخ على أن القوى المسؤولة عن حماية أمن مصر وسلامتها لم تكن على المستوى اللائق.
يبقى لازماً على أولي أمر مصر في مسيرتها الراهنة مساءلة كل من كان في موقع سلطة أو أمن عن فشله فى إحباط المؤامرة قبل تنفيذها.
يبقى لازماً أيضاً، وهو الأهم، أن تصدر توجيهات من أعلى سلطة قيادية في الدولة المصرية لكل المسؤولين بالامتناع عن الاختباء وراء قصة المؤامرة للتخلص من مسؤولية الفشل في إدارة شأن من شؤون مصر قبل الثورة أو بعدها.
أخشى أننا لو بدأنا نبني قواعد لمستقبل مصر فوق أخطاء في الممارسة السياسية والوطنية قد ينتهي الأمر بمشروعاتنا القومية العظمى إلى الفشل.
إن الضغط المتواصل على الشعب المصري ليخلع على الفور «جلباب الثورة» الذي ما انفك يعيش فيه، ويعود إلى «جلاليب» سبق أن خلعها في ميادين الثورة قبل أربع سنوات، كفيل بأن يحبط خطط الاستقرار والأمل.
ارتداء جلباب الثورة معناه الإصرار على التغيير. تغيير منظومة العدالة الاجتماعية ومنظومات المساواة والحريات والمشاركة والكرامة الإنسانية.
الناس ثارت ليس لأنها أرادت ممارسة العنف، إنما ثارت ضد كافة ممارسات العنف ومنها العنف السياسي.
رفضت العنف لأنها تعرف أن الحياة الديمقراطية والهادئة والرغدة لا يمكن أن تقوم في أجواء عنف.
ليس غريبا أننا نجد الآن كل القوى المستفيدة من أجواء العنف تحرض على المزيد منه، ففي أجواء الهدوء لا نفوذ لهم ولا دور.
أرفض، ورفضت دائماً، الادعاء القائل بأن ثورات «الربيع» تسببت في كل الكوارث وصنوف المعاناة التي خضناها في السنوات الأربع الماضية ولا نزال نخوضها.
لم تكن الجماهير الثائرة وراء التخريب، بل كانت وراءه أطراف محلية وإقليمية ودولية تحالفت أو تسللت لتسحق الثورة أو تضربها أو تسرقها لصالح التطرف والتشدد.
أليس هذا ما فعله بهذه الثورات حكام غير ناضجين في أوروبا أو استعجلوا فندم أكثرهم كما هو نادم الآن الرئيس أوباما.
أليس هذا ما فعله معمر القذافي في ليبيا، وما فعله ومازال يفعله بشار الأسد في دمشق بطفولة خرقاء أو وحشية متناهية.
أليس هذه هو ما يفعله الآن أعداء التغيير في النظام الإقليمي العربي، والساعون إلى انفراط الأمة.
هؤلاء، وليس الشعوب، هم وراء الفوضى الضاربة في الشرق الأوسط.
أخشى في النهاية أن يستهين حاكم أو آخر باحتمال أن تنهض تنظيمات المجتمع المدني للدفاع عن نفسها فيفاجأ بأنها لجأت إلى السلاح، وأغلبه متوافر بغزارة.
هكذا يتحول من مجتمع مدني مسالم إلى مجتمع مدني مسلح، بل هكذا راح ثائر في تركيا يحذر حكومة أنقرة من عواقب عودتها إلى استخدام العنف ضد منظمات المجتمع المدني ونشطائه.
جميل مطر
صحيفة الشروق المصرية