اليورو لم ينتصر بعد على تحدي كورونا

اليورو لم ينتصر بعد على تحدي كورونا

قادة الاتحاد الأوروبي يتفقون على خطة إنعاش بقيمة 750 مليار يورو، تهدف إلى تعافي الاقتصاديات الأوروبية المتأزمة بسبب كورونا، بعد محادثات ماراثونية شاقة في بروكسل، إلا أن حزمة الإنقاذ قوبلت بشكوك واسعة وسط القطاع المالي بسبب بعض الآراء الاقتصادية التي شككت في احتمالات تحقيقها نتائج ملموسة على المدى البعيد، يأتي هذا إضافة إلى الانتقادات اللاذعة التي وجهها بعض الخبراء إلى الالتزامات التي وضعت على طاولة التفاوض معتبرين أنها ليست كافية، بل هي أشبه بكأس ثلاثة أرباعه فارغة.

بروكسل – أجمع سياسيون وخبراء على أن خطة الإنقاذ الأوروبية التي تم الاتفاق عليها بعد جلسات شاقة من النقاش الماراثوني في بروكسل، تمثل علاجا تاريخيا، بينما وقفت الأصوات المترددة على جانب الحذر في المبالغة بأهميتها.

واعتبر كبار محللي صحيفة فايننشيال تايمز، صندوق الإنعاش بمثابة دواء جيد يمكن إدارته لمكافحة آثار وباء كورونا. وسيكون الاتحاد الأوروبي مقصرا إذا خفّض جرعته. لكن سيكون من الخطأ التاريخي المبالغة في أهميته.

وأعيد من جديد كلام سابق لرجل الأعمال جورج سوروس، ينطبق على الخطة التي اشترك في وضعها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما قال ذات مرة بأن ما تفعله ميركل في منطقة اليورو هو فقط ما هو ضروري لبقائها.

وعبّر غالبية المتشائمين عن توجسهم من تحقيق خطة إنعاش سريعة للاقتصاد بعد كورونا، معتبرين أن أوروبا مازالت على نفس الموقف الذي تحدث عنه سوروس من قبل. فقد تم وضع الخطة الفرنسية – الألمانية للإنعاش من فايروس كورونا، على قوانين الطوارئ بموجب معاهدات الاتحاد الأوروبي. لذلك يعيد الاقتصاديون تحذيرا سابقا بالقول إن “خطة الإنعاش ممكنة فقط لأنها لمرة واحدة”.

ويرون أن الاقتراح الفرنسي – الألماني، والنسخة الأكثر سخاء إلى حد ما من المفوضية الأوروبية، مهمان بمعنى أنهما يسعيان لمنع التداعيات الاقتصادية الكارثية. لكن الدافع وراء الصندوق هو الدافع نفسه وراء آلية الاستقرار الأوروبية، مظلة الإنقاذ التي أنشئت في 2012. مؤكدين أننا “ما زلنا نعرج من أزمة إلى أخرى، إلا أننا نحصل على المزيد والمزيد من الأدوية”.

الخطة التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي بشق الأنفس من أجل إنعاش اقتصاداته المتضررة مازالت أمام اختبار مبكر لمدى قدرتها على إدارة الأزمات المالية الكبرى التي خلفها كورونا

يأمل القادة في أن يساعد صندوق التعافي البالغ حجمه 750 مليار يورو (857.33 مليار دولار) والميزانية المرتبطة به البالغ حجمها 1.1 تريليون يورو لأعوام 2021-2027 في إصلاح أكبر ركود للقارة منذ الحرب العالمية الثانية بعد أن تسبب تفشي فايروس كورونا في توقف الاقتصادات.

وعلى الرغم من قوته الرمزية، فإن الاتفاق جاء على حساب تخفيضات في الاستثمار المقترح في الصناديق الصديقة للبيئة، كما أنه لم يحدد شروط توزيع الأموال على الدول، مثل المجر وبولندا، يُنظر لها على أنها تنتهك القيم الديمقراطية.

ومع تكتل يضم 27 دولة تملك كل منها حق النقض (فيتو) كشفت القمة أيضا عن أوجه قصور في الاتحاد من المرجح أن تعرقل صنع القرار مستقبلا بشأن المال حيث تقاوم دول الشمال الأكثر ثراء مساعدة الجنوب الأكثر فقرا.

وقادت هولندا مجموعة من الدول “المقتصدة” تشمل النمسا والسويد والدنمارك وفنلندا، التي أصرت على أن مساعدة إيطاليا وإسبانيا وغيرها من بلدان البحر المتوسط التي تحملت العبء الأكبر للجائحة ينبغي أن تكون معظمها على هيئة قروض وليس منحا لا ترد.

وقال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته “كان هناك القليل من الصدامات لكن كل هذا جزء من اللعبة”، ووصف علاقته بنظيره الإيطالي جوزيبي كونتي بأنها “دافئة”.

نجحت مفاوضات روته في خلق “مكبح طوارئ” لوقف تحويل المال مؤقتا من صندوق التعافي إلى أي دولة في الاتحاد يتبين أنها لم تلتزم بشروط الإصلاح المرتبطة بمنح المال.

وتواجه خطة التعافي الآن مسارا صعبا محتملا في البرلمان الأوروبي ويتعين أن تصدق عليها جميع الدول الأعضاء وهو ما سيعني إرجاء تحويل الأموال إلى الاقتصادات التي في حاجة ماسة للمساعدة في الوقت الراهن.

لكن المستشار النمساوي سيباستيان كورتس قال إن قوة تفاوض الدول المقتصدة ظهرت لتبقى، مشيرا إلى أن المحرك الفرنسي الألماني التقليدي لأوروبا سيواجه تحديات من اتحاد دول أصغر معا.

واعتبر بعض الخبراء أن الالتزامات التي وضعت على طاولة التفاوض ليست كافية مشبهين خطة الانقاذ بكأس ملآن للنصف، أو كأس ثلاثة أرباعه فارغة.

أكبر ركود للقارة
مع ذلك، هناك عدة مؤشرات إيجابية، للقمة التي جمعت رؤساء دول الاتحاد الأوروبي وحكوماتها في بروكسل منذ ظهور فايروس كورونا المستجد في أوروبا، وما حتمه من تدابير حجر وتباعد أرغمتهم على التواصل عبر الفيديو.

إذ دفعت أنباء الاتفاق أسواق الأسهم في شتى أنحاء الاتحاد الأوروبي للصعود عند الفتح الثلاثاء كما لامس اليورو أعلى مستوى في أربعة أشهر عند 1.1470 دولار. حيث زاد مؤشر “داكس” الألماني 232.48 نقطة تعادل نسبة 1.78 بالمئة، ليسجل 13279.40 نقطة، في أعلى مستوى منذ النصف الثاني من فبراير الماضي.

وارتفع مؤشر فوتسي 100 البريطاني بنسبة 0.73 في المئة ليسجل 6307.08 نقاط، فيما زاد مؤشر “فوتسي أم.بي.آي” الإيطالي بنسبة 2.23 في المئة تعادل 460.48 نقطة، ليسجل 21081.9 نقطة.وصعد مؤشر “كاك” الفرنسي نحو 64 نقطة تعادل نسبة 1.26 في المئة، إلى 5155.5 نقطة.

وذكر رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل أن الخطة الضخمة التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي بشق الأنفس من أجل إنعاش اقتصاداته المتضررة بشدة من جائحة كورونا أظهرت أن دول التكتل الـ27 تمكنت من الوقوف معا بإيمان مشترك في مستقبلها.

وقال ميشيل في مؤتمر صحافي فجر الثلاثاء بعد أن ترأس قمة سادتها الخلافات واستمرت حتى وقت متأخر من ليل الاثنين لتدخل يومها الخامس الثلاثاء “هذا الاتفاق يبعث بمؤشر ملموس على أن أوروبا قوة عمل”.

وأضاف “الأمر أكثر كثيرا من مجرد أموال. إنه يتعلق بالعمال والأسر ووظائفها وصحتها وضمانها الاجتماعي. أعتقد أن هذا الاتفاق سيعتبر لحظة فارقة في رحلة أوروبا وسينطلق بنا أيضا إلى المستقبل”.وعقدت القمة على خلفية تواصل تفشي جائحة كوفيد – 19 وعودة ظهور الفايروس في عدد كبير من الدول.

وأودى فايروس كورونا المستجد بحياة 590 ألفا و132 شخصا على الأقل منذ ظهوره في الصين في ديسمبر الماضي.

مؤشرات إيجابية
وتم تسجيل أكثر من 13 مليونا و385 ألفا و110 إصابات مثبتة في 196 بلدا ومنطقة. وتم إعلان تعافي سبعة ملايين و547 ألفا و500 من هذه الحالات على الأقل.

وحتى في أوروبا، المتقدمة جدًا في إجراءات رفع العزل، عادت العديد من البلدان للإعلان عن تشديد الإجراءات الصحية.

فألمانيا التي ظلت نسبياً بمنأى من الجائحة، أجازت اعتماد تدابير عزل مشددة على مستوى بعض المناطق، مع “حظر الخروج” منها في حال بلوغ العدوى الذروة

1 تريليون يورو ميزانية لربع قرن

وتخشى ألمانيا ظهور موجة ثانية قد يحملها المصطافون العائدون من الإجازات، بعدما كانت من الدول الأوروبية الأكثر نجاحا في تجنب الأزمة.

وتصاعد القلق لدى نشر مقاطع فيديو لسياح ألمان متجمعين في حانات في مايوركا دون أن يضعوا الكمامات أو يلتزموا التباعد الاجتماعي لمسافة 1.5 متر. وسارع وزير الخارجية الألماني إلى انتقاد “سلوكيات غير واعية” يتبعها البعض.

وفي إسبانيا، طُلب من سكان برشلونة “البقاء في منازلهم” وعدم الخروج إلا للضرورة.

وقررت حكومة إقليم كتالونيا إغلاق دور السينما والمسارح والملاهي ومنع التجمع لأكثر من عشرة أشخاص ومنع زيارة دور المسنين، وكذلك عدم السماح للحانات والمطاعم باستقبال أكثر من نصف عدد الزبائن.

وتراقب السلطات الإسبانية أكثر من 120 بؤرة للفايروس منذ عدة أيام، ولاسيما في كتالونيا، شمال شرق البلاد.

وتهدف هذه المبادرة إلى التعويض الجزئي عن التداعيات الاقتصادية لأزمة الوباء التي ستغرق اقتصاد القارة القديمة في ركود ضخم مع تراجع بنسبة 8.3 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي في العام 2020، حسب بروكسل.

في المقابل، خفض رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل مقترحه لميزانية 2021-2027 للاتحاد الأوروبي، فصارت قيمتها الإجمالية 1.074 مليار يورو بعدما كانت 1.094 مليار يورو في فبراير.

يعدّ التقليص، ولو الطفيف، مبادرة تجاه الدول الأربع “المتقشفة” (هولندا والنمسا والسويد والدنمارك) والتي انضمت إليها فنلندا.

وأبدت السويد وفنلندا تحفظاً، وطالبت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين بـ”توازن أفضل بين المساعدات والقروض”.

وهذه الدول حذرة تجاه خطة الإنعاش التي ستستفيد منها خصوصا دول الجنوب على رأسها إيطاليا وإسبانيا الأكثر تضررا بالوباء على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

وفي مؤشر آخر إلى الاسترضاء، استمرار الحفاظ على التخفيضات التي تتمتع بها هذه الدول، وألمانيا أيضاً، بهدف المساهمة بنسبة أقل من الدول الأخرى في ميزانية الاتحاد الأوروبي (كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي)، لأنها تعطي أكثر مما تتلقى.

واقترح ميشال أيضا أن يبدأ سداد الديون المشتركة في العام 2026، قبل عامين من اقتراح المفوضية.

أساليب غير عادية

بالرغم من الخلافات والشكوك الواسعة التي شككت في احتمالات تحقيق خطة الإنعاش لنتائج ملموسة على المدى البعيد، رحبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالاتفاق الذي توصل إليه قادة دول الاتحاد الأوروبي في ختام القمة الأوروبية التي بدأت أعمالها الجمعة الماضي، معتبرة أنه من المهم بالنسبة لها “أننا اجتمعنا على رأي في النهاية”.

وأشارت ميركل إلى أن أي علاقات جديدة تستلزم أساليب جديدة غير عادية، وقالت إن القمة استغرقت أيضا وقتا غير عادي.

وتابعت المستشارة بالقول “الميزانية موجهة نحو مستقبل أوروبا”، مشيرة إلى أن الأمر يتعلق أيضا بأن يتسنى للسوق الداخلية الاستمرار في ظل أصعب أزمات المجتمع.

ووصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إقرار قادة دول الاتحاد الأوروبي الـ27 في ختام القمّة الخطّة التاريخية للنهوض الاقتصادي لمرحلة ما بعد جائحة كوفيد – 19، بأنّه “يوم تاريخي لأوروبا”.

وبهذه الكلمات الثلاث عبّر الرئيس الفرنسي في تغريدة على تويتر عن فرحته بانتهاء المعركة الشرسة التي دارت في بروكسل بين بلاده وألمانيا من جهة والدول “المقتصدة” من جهة أخرى والتي تكلّلت بإقرار هذه الخطّة البالغة قيمتها 750 مليار يورو.

ومن جانبه أشاد وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بالاتفاق الذي توصلت إليه دول الاتحاد الأوروبي بشأن برنامج التعافي الاقتصادي من تبعات أزمة كورونا.

وقال ماس في برلين صباح الثلاثاء، قبل توجهه إلى اليونان “حتى وإن استغرق المسار فترة طويلة، ففي النهاية قفزنا لأبعد مما توقعنا”.

أضاف “يظهر الاتحاد الأوروبي أنه قادر أيضا في أصعب أزمة اقتصادية في تاريخه على التصرف بشكل حازم ويتسم بالتضامن”، وذلك بحسب بيان لوزارة الخارجية الألمانية.

وأكد ماس أن ذلك يعد “أساسا قويا من أجل أن يجتاز جميع المواطنين والمواطنات في أوروبا الأزمة على نحو جيد”.

وجاءت هذه الانفراجة بعد أكثر من أربعة أيام من “المحادثات الصعبة”، التي كادت أن تحطم الرقم القياسي الأطول للاتحاد الأوروبي على الإطلاق.

وتوقع وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير احتمال حدوث تعاف اقتصادي تدريجي في النصف الثاني من 2020 بفضل اتفاق قادة الاتحاد الأوروبي على خطة تحفيز ضخمة لاقتصاداتهم المتضررة من فايروس كورونا.

وقال ألتماير للصحافيين إن الصفقة نبأ طيب للملايين في ألمانيا وأوروبا، مضيفا “فرصة أن نشهد تعافيا حذرا وبطيئا في النصف الثاني من العام بداية من نهاية أكتوبر، سيزيد بشكل كبير”.

وعبّر ألتماير عن تفاؤله من أن تشهد جميع الدول الأوروبية تعافيا مستداما في 2021 و2022، مضيفا أنه ينتظر أن تعاود جميع منطقة اليورو النمو في 2021.

لكن يبدو أنّ قادة القارة العجوز ما زالوا أمام اختبار مبكر لقدرة خطة الإنعاش على إدارة الأزمات الكبرى التي خلّفها وباء كورونا.

العرب